المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت | الأحد |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | 3 | ||||
4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 |
11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 |
18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 |
25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
اعتماد الخطيب على عصا
مسجد الاسراء و المعراج عنابة :: المنتدى الاسلامي :: المنتدى الاسلامي :: المنتدى الاسلامي العام :: مسائل فقهية وعلمية
صفحة 1 من اصل 1
اعتماد الخطيب على عصا
بسم الله الرحمن الرحيم
اعتماد الخطيب على عصا
سنة من سنن الحبيب المصطفى
الحمد لله و هو أهلٌ للحمد ، حمدًا لا يحصيه عدّ ، و لا يحيط به ثناء مهما جدّ . و الصلاة و السلام على نبيّه و صفيّه محمد ، نصح فأبلغ ، و دعا فبلّغ ، فيا سعادة من جعله دليلاً ، و اتخذ شرعه منهجًا و سبيلاً .
أمّا بعد ، فقد اشتهر بين كثير من الأئمّة الشباب و بعض طلبة العلم على أنّ حمل العصا أثناء الخطبة يوم الجمعة أمر محدث مخالف للسنّة . و صار الوقوف على المنبر بلا عصا شعارًا لاتّباع السلف . و تتابع كثير من الخطباء على ذلك حتى عزّ مَن تراه معتمدًا في خطبته على عصا . بل و رُفعت العصيّ من مساجد كثيرة بعد أن كانت لقرون طويلة جزءًا من شعيرة الجمعة .
و هذا ما دفعني إلى كتابة هذا الجزء ، لأنبّه إخواني الأئمّة إلى التبصر و عدم التسرع في الحكم على الأشياء قبل التمحيص و النظر . فأقول مستمدًّا من الله العون :
اعلم - شرح الله صدري و صدرك للحق - أن اعتماد الخطيب في خطبته على عصا هو من الأمر القديم الذي توارثته الأمة خلفًا عن سلف . و هو الذي لم يزل رسول الله - صلى الله عليه و سلم - و أصحابه من بعده يفعلونه ، حتى أنّ الإمام القرطبي رحمه الله ذكر انعقاد الإجماع على ذلك . و ذلك عند تفسير قول الله تعالى قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ) ،
و قال رحمه الله في موضع آخر (11/169 ) :" ... واتخذها سليمان لخطبته وموعظته وطول صلاته ، وكان ابن مسعود صاحب عصا النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنزته ، وكان يخطب بالقضيب ، وكفى بذلك فضلا على شرف حال العصا . وعلى ذلك الخلفاء وكبراء الخطباء وعادة العرب العرباء الفصحاء اللسن البلغاء أخذ المخصرة والعصا والاعتماد عليها عند الكلام وفي المحافل والخطب ..." اهـ
و قد جمعت في هذا الباب جملة صالحة من الأحاديث و الآثار التي تبيّن أن الإعتماد على العصيّ أو القسيّ في حال الخطبة هو من صميم هدي النبي - صلى الله عليه و سلم - و السلف الصالح رضوان الله عليهم ، و هذا بيانه :
• الحديث الأول :
عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قال :
" ... سمعت نداء المنادي - منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم - ينادي : " الصلاة جامعة " ، فخرجت إلى المسجد فصليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكنت في صف النساء التي تلي ظهور القوم . فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -صلاته جلس على المنبر وهو يضحك ، فقال : " ليلزم كل إنسان مصلاه " ، ثم قال : " أتدرون لم جمعتكم ؟ " ، قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة ، ولكن جمعتكم لأن تميما الداري كان رجلا نصرانيا فجاء فبايع وأسلم وحدثني حديثًا وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال... الحديث ".
إلى أن قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطعن بمخصرته في المنبر ، : " هذه طيبة ، هذه طيبة ، هذه طيبة - يعني المدينة - ألا هل كنت حدثتكم ذلك ؟ " ، فقال الناس : نعم ... إلى آخر الحديث "
أخرجه مسلم في " صحيحه " مطولاً برقم ( 2942) في باب قصة الجساسة ، من طرق عن الإمام عامر بن شراحيل الشعبي رحمه الله أنه سأل فاطمة بنت قيس , أخت الضحاك بن قيس ، - وكانت من المهاجرات الأول – فقال : حدثيني حديثًا سمعتيه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تسنديه إلى أحد غيره ؟ فقالت : لئن شئت لأفعلن . فقال لها : أجل حدثيني ...
و أبوداود في " السنن " باب : في خبر الجساسة برقم ( 4325 إلى 4328 ) ،
و الترمذي برقم ( 2253 ) و صححه ، و النسائي في " السنن الكبرى " برقم ( 4258 ) ، و ابن ماجة برقم ( 4074 ) .
و أخرجه كذلك ابن أبي شيبة في " مصنفه " برقم ( 37520 و 37636 ) ، و ابن حبان في " صحيحه " برقم ( 6787 إلى 6789 ) ، و الطبراني في " الكبير " في ترجمة فاطمة بنت قيس رضي الله عنها ، و غيرهم ...
و هذا حديث عزيز فتح الله به علي ّ ، و لم أرَ من ذكره قبلي في هذا الباب ، فالحمد لله الذي تتمّ بنعمته الصالحات .
و قوله " جلس على المنبر " أي ليسكّن الناس أولاً ، و قد جاء ذلك مبيَّنًا في رواية :
" قالت : صلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم الظهر ثم صعد المنبر فاستنكر الناس ذلك فبين قائم وجالس ، ولم يكن يصعده قبل ذلك إلا يوم الجمعة ، فأشار إليهم بيده أن اجلسوا ثم قال : والله ما قمت مقامي هذا لأمر ينفعكم لرغبة ولا لرهبة ولكن تميما الداري ...." إلخ
و في رواية :
" قالت : قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فسمع الناس أنه قام على المنبر فأقبل الناس يشتدون وكنت ممن أتاه فسمعته يقول..."
و قوله " و طعن بمخصرته " أي ضرب بها المنبر ، كما ورد في رواية أخرى .
و المخصرة ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ( الفتح 6/213 ) :
" وهي عصا يمسكها الكبير يتكئ عليها ، وكان قضيبه - صلى الله عليه وسلم - من شوحط ، وكانت عند الخلفاء بعده حتى كسرها جهجاه الغفاري في زمن عثمان ."اهـ
قلت : و سيأتي ذكر ذلك قريبًا إن شاء الله .
و الحديث دليل قويّ للردّ على من يفرق في الإتكاء ، بين كون الخطيب على منبر أو على غيره . و سيأتي مزيد بيان لهذا لاحقًا بإذن الله .
• الحديث الثاني :
عن الحكم بن حزن الكلفي رضي الله عنه قال:
" وفدت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سابع سبعة أو تاسع تسعة فدخلنا عليه فقلنا : يا رسول الله زرناك فادع الله لنا بخير . فأمر بنا - أو أمر لنا - بشيء من التمر ، والشأن إذ ذاك دون ، فأقمنا بها أياما شهدنا فيها الجمعة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام متوكئًا على عصا أو قوس ، فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات ثم قال : " أيها الناس إنكم لن تطيقوا - أو لن تفعلوا - كل ما أمرتم به ، ولكن سددوا وأبشروا ."
أخرجه أحمد في " مسنده " ( 4 / 212 ) ،
وأبوداود في " سننه " برقم (1096 ) في ( باب : الرجل يخطب على قوس )
ومن طريقه البيهقي في " السنن الصغرى " ( 1/263 ) ، وأبويعلى في " مسنده " برقم (6826 )
وابن خزيمة في " صحيحه " برقم ( 1452 ) في ( باب الاعتماد على القسي أو العصي على المنبر في الخطبة ) ، و غيرهم ...
من طرق عن شهاب بن خراش ، حدثني شعيب بن رزيق الطائفي ، قال : جلست إلى رجل له صحبة من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، يقال له : الحكم بن حزن الكُلفي ، فأنشأ يحدثنا ، قال : " وفدت .... " فذكره .
والحديث صححه ابن خزيمة و ابن السكن ، كما في " تلخيص الحبير " ( 2/ 65)
و حسّن إسناده الحافظ ابن حجر في " تلخيص الحبير " ( 2 / 65 ) ، والألباني رحمه الله في " الإرواء " ( 3/78 )
قلت : إسناده حسن ؛ شهاب بن خراش قال أحمد وأبوزرعة : " لا بأس به "،
وقال ابن معين والنسائي : " ليس به بأس " ( ميزان الإعتدال 3/387 ) ،
وقال أبوحاتم : "صدوق لا بأس به " ( الجرح و التعديل 4/362) ،
و وثقه ابن المبارك و الدارقطني والحاكم ، وذكره ابن حبان في( الثقات ) وقال : " يخطئ ويدلس " ،
قال الحافظ : والأكثر وثقوه . كذا في ( تلخيص الحبير 2/65 )
قال الشوكاني رحمه الله في " النيل " ( 3/330 ) : " الحديث فيه مشروعية الاعتماد على سيف أو عصى حال الخطبة ".
و كذلك الأمير الصنعاني رحمه الله ، قال في " سبل السلام " ( 2/59 ) : " وفي الحديث دليل على أنه يندب للخطيب الاعتماد على سيف أو نحوه ".
قلت : و اعتذر الشيخ الألباني رحمه الله عن العمل به – مع تصحيحه إياه – بكون ذلك كان قبل اتخاذ المنبر . قال : و يدل عليه قوله في الحديث : " والشأن إذ ذاك دون " . قال : فقوله ذلك يشعر بأنّه قدم عليه - صلى الله عليه و سلم - و الزمان زمان فقر و ضيق في العيش , و ليس هذا الوصف بالذي ينطبق على زمان فتح مكة كما هو ظاهر , فإنّه زمن فتح و نصر و خيرات و بركات , فالذي يبدو لي أنّه أسلم في أوائل قدومه - صلى الله عليه و سلم - إلى المدينة . و الله أعلم .اهـ
و هذا متعقَّب من جهتين :
الأولى : تأخر إسلام الحكم بن حزن رضي الله عنه ، فقد قال ابن عبد البر : إنه أسلم عام الفتح ، وقتل يوم اليمامة ". كذا في " سبل السلام " ( 2/59 )
لكنّ الشيخ الألباني رحمه الله تعقبه بقوله : لم أر من ذكر هذا ممن ألّف في تراجم الصحابة و غيرهم , و إنّما ذكره الصنعاني في " سبل السلام " ( 2 – 65 ) عند الكلام على حديثه المتقدم , فقال :
" قال ابن عبد البر : إنّه أسلم عام الفتح , و قيل يوم اليمامة , و أبوه حزن بن أبي وهب المخزومي " .
و قد رجعت إلى كتاب " الاستيعاب " لابن عبد البر , فلم أره ذكر ذلك , ثم عدت إلى الكتب الأخرى مثل " أسد الغابة " لابن الأثير , و " تجريده " للذهبي , و " الإصابة " و " تهذيب التهذيب " للعسقلاني , فلم أجدهم زادوا على ما في " الاستيعاب " ! فلو كان لذلك أصل عند ابن عبد البر لما خفي عليهم جميعا , و لما أغفلوه , لا سيما , و ترجمته عندهم جرداء ليس فيها إلاّ أنّه روى هذا الحديث الواحد .اهـ
قلت :
الأمر كما قال الألباني رحمه الله ، و يبدو أن الأمير الصنعاني قد ذهل و هو يقرأ ( الإستيعاب ) و وقع له اشتباه بين ( الحكم بن حزن ) و ( الحكيم بن حزن ) . و قد رجعت إلى ترجمة هذا الأخير فوجدته في " الإستيعاب " ( 1/107 ) أنه " أسلم عام الفتح مع أبيه و قُتل يوم اليمامة شهيدًا ".
ملحوظة : الذي في " سبل السلام " - و قد نقله كذلك الألباني رحمه الله - : ( و قيل يوم اليمامة ) ، و هو تصحيف من ( قتل يوم اليمامة ) .
و مهما يكن ، فما ذكره الألباني رحمه الله محض استنتاج لا يتمّ الإستدلال به و لا يسلم من نظر .
و يرده حديث طلحة بن عمرو النصري - وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال :
" أتيت المدينة وليس لي بها معرفة ، فنزلت في الصفة مع رجل ، وكان بيني وبينه كل يوم مد من تمر . فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فلما انصرف قال رجل من أصحاب الصفة : يا رسول الله أحرق بطوننا التمر وتخرقت عنا الحنف . فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فخطب ثم قال : " لو وجدت خبزا أو لحما لأطعمتكموه أما إنكم توشكون - تدركون أو من أدرك ذلك منكم - أن يراح عليكم بالجفان وتلبسون مثل أستار الكعبة وقال : لقد مكثت أنا وصاحبي ثمانية عشرة يوما وليلة وما لنا طعام إلا البرير حتى جئنا إلى إخواننا من الأنصار فواسونا وكان خير ما أصبنا هذا التمر ".
رواه أحمد ( 16031 ) و الحاكم في " المستدرك " ( 4290 و 8648 ) و قال : هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه . و قال الذهبي في تعليقه على" التلخيص " : صحيح .
و قال شعيب الأرنؤوط في حديث أحمد : إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير داود بن أبي هند وأبي حرب - وهو ابن أبي الأسود - فمن رجال مسلم .
و الجهة الثانية : أنّ مبنى كلام الشيخ الألباني رحمه الله على قول من قال أنّ أول شأن المنبر كان في السنة الثامنة ، و هذا فيه نظر . فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ( الفتح 2/398 ) :
" وجزم ابن سعد بأن ذلك كان في السنة السابعة ، وفيه نظر لذكر العباس وتميم فيه ؛ وكان قدوم العباس بعد الفتح في آخر سنة ثمان ، وقدوم تميم سنة تسع . وجزم بن النجار بأن عمله كان سنة ثمان ، وفيه نظر أيضا لما ورد في حديث الإفك في الصحيحين عن عائشة ، قالت :
" فثار الحيان الأوس والخزرج حتى كادوا أن يقتتلوا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فنزل فخفضهم حتى سكتوا " . فإن حمل على التجوز في ذكر المنبر وإلا فهو أصح مما مضى ".اهـ
قلت : الأصل في الألفاظ أن تحمَل على الحقيقة و عدم التجوّز إلاّ بقرينة . و قد ورد ذكر المنبر في حديث الإفك مرتين ، و ليس مرة واحدة كما يوهم كلام الحافظ رحمه الله . الثانية حينما استعذر من ابن أبيّ بن سلول ، قالت عائشة رضي الله عنها :
" فقال رسول الله - وهو على المنبر - :يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا ..." إلخ .
بل و قد ذُكر مرة ثالثة حينما نزل براءة عائشة رضي الله عنها ؛
فقد أخرج أحمد (6/35 ) ، وأبو داود ( 4474 ) ، و الترمذي ( 3181 ) ، و النسائي في " الكبرى " ( 7351 ) ، و ابن ماجة ( 2567 ) ، والبيهقى في " السنن الكبرى " ( 8/250 ) و غيرهم ، من طرق عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة قالت :
" لما نزل عذري قام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدهم ".
قال الترمذي : هذا حديث حسن .
قلت : فيه محمد بن إسحاق و هو مشهور بالتدليس ، لكنه صرّح بالسماع عند البيهقي .
و الحاصل أنه من تأمل أخبار النبيّ – صلى الله عليه و سلم – تيقّن أنّ المنبر كان قبل هذا بكثير ، و هذا بيان ذلك :
عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال :
" لما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحُد صعد المنبر، فحمد الله عز وجل وأثنى عليه ثم قرأ هذه الآية [ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ] الآية كلها . فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله من هو ؟ فأقبلتُ وعليَّ ثوبان أخضران ، فقال : أيها السائل هذا منهم ".
أخرجه الطبري في " تفسيره " (21/147) ، و ابن أبي عاصم في " السنة " ( 1400 ) ، و ابن أبي حاتم كما في تفسير " ابن كثير " ( 3/477 )
وأخرجه الترمذي في التفسير والمناقب أيضا ، من حديث يونس بن بكير عن طلحة عن يحيى عن موسى وعيسى ابني طلحة عن أبيهما رضي الله عنه به وقال : حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يونس .اهـ
و رواه الضياء في " المختارة " ( 817 إلى 819 ) و حسنه . و له شواهد كثيرة تقويه و تؤيده .
و عن أبي سعيد بن المعلى قال :
" كنا نغدوا للسوق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنمر على المسجد فنصلي فيه . فمررنا يومًا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد على المنبر، فقلت : لقد حدث أمر. فجلست فقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم – [ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ ِفي السَّمَاءِ ]حتى فرغ من الآية . قلت لصاحبي : تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنكون أول من صلى . فتوارينا فصلينا ثم نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى للناس الظهر يومئذ ".
أخرجه النسائي في " الكبرى " ( 11004 ) ، أنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن أنا الليث نا خالد بن يزيد عن بن أبي هلال قال أخبرني مروان بي عثمان أن عبيد بن حنين أخبره عن أبي سعيد بن المعلى ، به .
و هذا سند صحيح رجاله كلهم ثقات .
و رواه البخاري في " الكنى " ( 1/33 ) ، من طريق عبد الله بن صالح قال : حدثني الليث ، به.
و هذا أمر يطول لو استقصيناه ، و يمكن أن يفرَد في جزء ، و لكن حسبي أني بيّنت بما سبق أنّ المنبر أقدم بكثير ممّا ذُكر . و هذا أولى بالإعتماد من أقوال بعض الإخباريين التي لا تستند إلى دليل .
تنبيه : القوس المذكورة في حديث الحكم بن حزن رضي الله عنه و في غيره من أحاديث الباب هي القوس العربية ، و هي شبيهة بالعصا و لا تختلف عليها إلا في الوتر . بخلاف القوس الفارسية فإنها منحنية ، و قد رُوي النهي عن اتخاذها لعدم الإنتفاع بها بعد انقطاع وترها . و عليه ، فإنّ شك الراوي – و هو ممن دون الصحابي – لا يؤثر في الحكم .
• الحديث الثالث :
عن جابر بن عبدالله – رضي الله عنه – قال:
" بدأ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالصلاة قبل الخطبة في العيدين بغير أذان ولا إقامة ، قال : ثم خطب الرجال وهو متوكئ على قوس ، قال : ثم أتى النساء فخطبهن وحثهن على الصدقة ، قال : فجعلن يطرحن القرطة والخواتيم والحلي إلى بلال ، قال : ولم يصل قبل الصلاة ولا بعده."
أخرجه أحمد في " مسنده " (3/314) ، والدارقطني في " سننه "(2/47) مختصرا ً .
عن أبي معاوية ، ثنا عبدالملك ، عن عطاء ، عن جابر بن عبدالله ، به .
قال الألباني رحمه الله في " الإرواء "(3/99) " إسناد صحيح على شرط مسلم "
قلت : لكن هناك من يزعم أن ذكر القوس في هذا الحديث شاذ ؛ فإن أبا معاوية هذا – كما قال - هو محمد بن خازم قال أحمد :" في غير حديث الأعمش مضطرب ، لا يحفظها جيّدًا ".
ولذلك ترجم له ابن حجر في " التقريب " بقوله : " ثقة ، أحفظ الناس لحديث الأعمش ، وقد يهم في حديث غيره ".
وقد خالفه جماعة فرووه عن عبدالملك بن أبي سليمان ، به , ولكنهم قالوا : " قام متوكئاً على بلال " بدلاً من : " وهو متوكئ على قوس " .
و الجواب : أن كلام الإمام أحمد و الحافظ ليس على إطلاقه ، و شأن الأئمة النظر في كل رواية على حدة . و قد أخرج له البخاري و غيره من الأئمة عن غير الأعمش ، و هي في الصحاح . مما يدل على أنهم كانوا ينتقون من أحاديثه ما تدل الشواهد و القرائن على صحته .
و اعلم أن ذكر ( التوكأ على قوس ) في الحديث لا يعارض ذكر ( التوكأ على بلال ) رضي الله عنه و لا يخالفه . و الذين رووا الحديث عن عبد الملك بن أبي سليمان رووه على أربعة ألفاظ :
- اللفظ الأول : الإقتصار على ذكر التوكأ على قوس ، رواه أبو خازم كما مر.
- و اللفظ الثاني : الإقتصار على ذكر التوكأ على بلال في الخطبة الأولى و عدم ذكرها عند موعظة النساء ، رواه ابن نمير عند مسلم ( 2/603 ) برقم (885) .
- و اللفظ الثالث : الإقتصار على ذكر التوكأ على بلال عند موعظة النساء دون الخطبة ، رواه يعلى بن عبيد عند الدارمي برقم ( 1610 ) و هو اللفظ الذي رواه ابن جريج عن عطاء ، رواية واحدة ،لم يختلف عليه فيه . أخرجه البخاري برقم ( 918 – 935 ) و مسلم برقم ( 885 ) و غيرهما ... و هذا يعني أنّ جريجًا لم يتابع عبد الملك إلا على رواية يعلى بن عبيد .
- و اللفظ الرابع : ذكر التوكأ على بلال في الحالتين ؛ أي عند الخطبة و عند موعظة النساء ، رواه يحيى بن سعيد عند أحمد ( 3/18) برقم (14460) و النسائي برقم (1575) ، و يزيد بن هارون ، و إسحاق بن يوسف كلاهما عند البيهقي و هما على التوالي برقم (6014) في باب أمر الإمام الناس في خطبته بطاعة الله عز وجل وحضهم على الصدقة والتقرب إلى الله سبحانه والكف عن معصيته .
و رقم (5993) في باب يبدأ بالصلاة قبل الخطبة .
و هناك من لم يتعرض للتوكئ أصلا ، كما هو الحال في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما و هو مخرج في الصحيحين ، و كل راوٍ ذكر ما حفظ ، و ليس ثمة - لمن تأمل - تعارض بين الروايات حتى يحكم على إحداها بالشذوذ . بل الجمع ممكن ، بل هو لائح مع أدنى تأمل ، و الجمع إذا أمكن فلا يصار إلا إليه ، كما هو مقرر في الأصول .
و يشهد لحديث الباب ، حديث البراء بن عازب رضي الله عنه ، قال :
" كنا جلوسا في المصلى يوم أضحى فأتانا رسول الله على الناس ثم قال : إن أول نسك يومكم هذا الصلاة قال : فتقدم فصلى ركعتين ثم سلم ثم استقبل الناس بوجهه وأعطي قوسا أو عصا فاتكأ عليه فحمد الله وأثنى عليه وأمرهم ونهاهم ...
إلى أن قال :
" ثم قال : يا بلال ، قال : فمشى واتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى النساء فقال : يا معشر النسوان تصدقن الصدقة خير لكن ، قال : فما رأيت يوما قط أكثر خدمة مقطوعة وقلادة وقرطا من ذلك اليوم ."
رواه أحمد ( 4/282 ) و سيأتي قريبًا إن شاء الله .
• الحديث الرابع :
عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه :
" أنّ النبيّ - صلى الله عليه و سلم - كان يخطب بمخصرة في يده " .
أخرجه البزار ( 1/306-307 ) ، و أبو نعيم في الحلية ( 3/167 ) ، و ابن سعد في الطبقات ( 1/377 ) ، و أبو الشيخ في " أخلاق النبي صلى الله عليه و سلم " ( 184 /441 )
من طريق عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه به .
قال الألباني رحمه الله في " الضعيفة " : رجاله ثقات ، إلا أنّ فيه ابن لهيعة ، سيء الحفظ .
و كذلك قال الحافظ الهيثمي في ( الزوائد 2/187 ) من قبل : " رواه الطبراني في الكبير والبزار وفيه ابن لهيعة وفيه كلام "
قلت : الأكثرون يعتبرون بروايته في الشواهد و المتابعات . منهم الهيثمي نفسه في ( مجمع الزوائد ) و حسّن الترمذي في سننه بعض أحاديثه منها مثلا رقم ( 40-1589-1644-1652-2903-و 3641 إلخ ...) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ( الفتح 4/93 ) و هو يتكلم في حديث : " وفي إسناده ابن لهيعة ولا بأس به في المتابعات " .
و قال الوادياشي في ( تحفة المحتاج 1/427 ) : "وقد ضعفوه ولكن لم يطرح ، فقد صحح بعض الأئمة حديث ابن المبارك وابن وهب عنه واحتج به . وقال ابن عدي : أحاديثه حسان ، وقال ابن وهب : كان صادقًا ، وروى له مسلم مقرونا ووقع ذكره في البخاري من غير تسمية ".
و قال الترمذي في علله ( 1/744 ) :
" ... وكذلك من تكلم من أهل العلم في مجالد بن سعيد ، وعبد الله بن لهيعة وغيرهم ، إنما تكلموا فيهم من قبل حفظهم وكثرة خطئهم وقد روى عنه غير واحد من الأئمة فإذا انفرد أحد من هؤلاء بحديث ولم يتابع عليه لم يحتج به كما قال أحمد بن حنبل: ابن أبي ليلى لا يحتج به ، إنما عنى إذا تفرد بالشيء ."
و قال الشوكاني رحمه الله في ( النيل 7/26 ) :
" وابن لهيعة ليس بساقط الحديث فإنه إمام حافظ كبير ولهذا أورده الذهبي في تذكرة الحفاظ ، وقال أحمد بن حنبل : من كان مثل ابن لهيعة بمصر في كثرة حديثه وضبطه وإتقانه . وقال أحمد بن صالح :كان ابن لهيعة صحيح الكتاب طلابا للعلم . وقال يحيى بن القطان وجماعة : إنه ضعيف ، وقال ابن معين : ليس بذاك القوي ، وهذا جرح مجمل لا يقبل عند بعض أئمة الجرح والتعديل . وقد قيل : إن السبب في تضعيفه احتراق كتبه وأنه بعد ذلك حدث من حفظه فخلط ، وإن من حدث عنه قبل احتراق كتبه كابن المبارك وغيره حديثهم عنه قوي وبعضهم يصححه ، وهذا التفصيل هو الصواب ".
قلت : و حديث الباب عند أحمد من طريقين أحدهما عن ( سعيد بن قتيبة ) و روايته عن ابن لهيعة صحيحة ؛ ففي ( سير أعلام النبلاء للذهبي رحمه الله 8/17 ) : " قال قتيبة : قال لي أحمد بن حنبل أحاديثك عن ابن لهيعة صحاح . فقلت : لأنا كنا نكتب من كتاب ابن وهب ثم نسمعه من ابن لهيعة ".
و أعدل ما قرأت عنه قول الذهبي رحمه في ( سير أعلام النبلاء 8/14 ) : " لا ريب أن ابن لهيعة كان عالم الديار المصرية هو والليث معا كما كان الإمام مالك في ذلك العصر عالم المدينة ... ولكن ابن لهيعة تهاون بالإتقان وروى مناكير فانحط عن رتبة الاحتجاج به عندهم وبعض الحفاظ يروي حديثه ويذكره في الشواهد والاعتبارات والزهد والملاحم لا في الأصول وبعضهم يبالغ في وهنه . ولا ينبغي إهداره وتتجنب تلك المناكير فإنه عدل في نفسه ، وقد ولي قضاء الإقليم في دولة المنصور دون السنة وصرف ".اهـ
و الخلاصة : أن الحديث حسن لغيره على أقل تقدير ، و يشهد له ما سبق و ما سيأتي من فعل عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما .
• الحديث الخامس :
عن عبدالرحمن بن خالد العدواني عن أبيه :
" أنه أبصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مشرق ثقيف ، وهو قائم على قوس أو عصا ، حين أتاهم يبتغي عندهم النصر. قال : فسمعته يقرأ [ والسماء والطارق ] حتى ختمها . قال : فوعيتها في الجاهلية وأنا مشرك ثم قرأتها في الإسلام . قال : فدعتني ثقيف فقالوا : ما سمعت من هذا الرجل ؟ فقرأتها عليهم فقال من معهم من قريش : نحن أعلم بصاحبنا لو كنا نعلم ما يقول حقا لاتبعناه ".
أخرجه أحمد في " مسنده " ( 4/335 ) ، وابنه في " زوائد المسند " ( 4 / 335 ) ، والبخاري في " التاريخ الكبير "( 3/138 ) ، وعثمان بن سعيد الدارمي في " تاريخه " ( 3 / 27 ) ، وابن أبي عاصم في " الآحاد والمثاني " (1274 و 1275 ) ، وابن خزيمة في " صحيحه " (1778 ) ، والطبراني في " المعجم الكبير "( 4126 ) .
من طريق عبدالله بن عبدالرحمن الطائفي ، عن عبدالرحمن بن خالد العدواني ، عن أبيه ، به .
قال الهيثمي في " المجمع "(7/136 ) : " رواه أحمد والطبراني ، وعبدالرحمن ذكره ابن أبي حاتم ولم يجرحه أحد وبقية رجاله ثقات".
قلت : عبدالرحمن بن خالد ترجم له ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (5/229 ) ، والبخاري في " التاريخ الكبير " ( 5 / 277 ) ، ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً ، ولم يذكرا راوياً عنه سوى عبدالله بن عبدالرحمن الطائفي .
فهو مجهول العين ، وقد قال الحسيني في " الإكمال " : " مجهول "
و عبدالله بن عبدالرحمن فيه ضعف ، قال ابن معين : " ليس به بأس "
وقال أبوحاتم:" ليس بقوي ، لين الحديث ".
وقال البخاري : " فيه نظر ".
• الحديث السادس :
عن البراء بن عازب – رضي الله عنه - :
" أنّ النبيّ - صلى الله عليه و سلم - خطبهم يوم عيد و في يده قوس أو عصا ".
أخرجه أحمد ( 4/282 ) و عبد الرزاق في " مصنفه " برقم ( 5658 ) و أبو داود برقم ( 1145 ) ، و ابن أبي شيبة في مصنفه ( 5562 ) ، و الطبراني في " المعجم الكبير " ( 2/24 ) برقم( 1169 ) ، و البيهقي في ( السنن الكبرى 3/300) برقم (6013) ،
من طريق أبي جناب ، عن يزيد بن البراء ، عن أبيه ، به .
قلت : أبو جناب هو يحيى بن أبي حية ، قال الهيثمي في ( الزوائد 2/88 ) عن حديث فيه أبو جناب : " و هو ثقة و لكنه مدلس " .
و قال الحافظ ابن حجر في ( التقريب 1/589 ) : " ضعفوه لكثرة تدليسه " .
و قال في ( تغليق التعليق 3/238 ) : " كوفي يكتب حديثه في المتابعات وكان يعاب عليه التدليس وقد صرح بسماعه هنا " – يعني حديثًا هناك .
قلت : و كذلك هنا ، قد صرح بالسماع عند أحمد و البيهقي و الطبراني و غيرهم . فالحديث لا ينزل عن درجة الحسن . و قد صححه ابن السكن رحمه الله ، كما في ( التلخيص 2/65 ).
• الحديث السابع :
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال :
" كان رسول الله – صلى الله عليه و سلم – يخطبهم يوم الجمعة في السفر متوكئًا على قوس قائمًا " .
أخرجه أبو الشيخ في ( أخلاق النبي صلى الله عليه و سلم 171- 406 ) حدثنا إسحاق بن أحمد الفارسي ، نا محمد بن هارون ، نا معاوية بن عمرو ، نا معاوية بن عمرو ، نا أبوإسحاق الفزاري ، عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، به.
قال الشيخ الألباني رحمه الله في ( السلسلة الضعيفة 2/381 ) : " إسناده واه جدًّا "
قلت : في إسناده الحسن بن عمارة قال الحافظ في ( التقريب 1/162 ) : " متروك "
و الحديث أخرجه الطبراني في ( المعجم الكبير 11/392 ) من طريق أبي شيبة عن الحكم به .
و أبو شيبة ليس أحسن حالاً من الحسن بن عمارة ، فقد قال الحافظ في ( التقريب 1/92 ) : " متروك الحديث " .
• الحديث الثامن :
عن سعد القرظ رضي الله عنه :
" أنّ رسول الله - صلى الله عليه و سلم - كان إذا خطب في الحرب خطب على قوس وإذا خطب في الجمعة خطب على عصا ".
رواه ابن ماجة في " السنن " برقم ( 710و 731 ) باختصار ، و الطبراني مطوّلاً في ( الكبير ) برقم ( 5448 ) ، و في ( الصغير ) برقم ( 1174 ) ، و الحاكم في ( المستدرك ) برقم ( 6554 ) ، و ابن عدي في " الكامل " ( 4/314 ) ، و من طريقه البيهقي في " السنن الكبرى " برقم ( 5542 ) .
من طريق عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد القرظ المؤذن ، حدثني أبي عن أبيه عن جده به .
قال البوصيري في " الزوائد " ( 1/133 ) : " هذا إسناد ضعيف ؛ عبد الرحمن فمن فوقه ضعفاء ، وقد تقدم الكلام عليه مرة . رواه الحاكم في " المستدرك " من طريق عمار بن سعد به . ورواه البيهقي من طريق ابن ماجة ، وله شاهد رواه أبو داود في سننه من حديث الحكم بن حرب مرفوعا أنه خطب يوم الجمعة على عصا أو قوس".اهـ
قلت : و كذا رواه الطبراني في " الكبير " عن عبد الرحمن بن عمار بن سعد به . و ( عبد الرحمن بن سعد ) ضعفه ابن معين ، و أبوه ( عمار ) قال عنه الحافظ في " التقريب " ( 1/407 ) :" مقبول ".
و يُفهم من ظاهر كلام البوصيري رحمه الله أن الحديث صالح للإعتبار ، وهو كذلك .
• الحديث التاسع :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :
" ... وكان رسول الله إذا صعد على المنبر سلم ، فإذا جلس أذن المؤذن . وكان يخطب خطبتين ويجلس جلستين ، وكان يشير بإصبعه ويؤمّن الناس ، وكان يتوكأ على عصا يخطب عليها يوم الجمعة ، وكانت من شوحط . وكان إذا خطب استقبله الناس بوجوههم وأصغوا بأسماعهم ورمقوه بأبصارهم ..."
أخرجه ابن سعد في " الطبقات " ( 1/249 ) مطوّلاً ، أخبرنا محمد بن عمر أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عبد المجيد بن سهيل عن أبي سلمة عن أبي هريرة به .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في " الفتح " ( 2/398 ) : " رجاله ثقات إلا الواقدي ".
هذا فيما يتعلق بالأحاديث الموصولة ، و هي كافية للدلالة على سنية التوكإ على عصا عند الخطبة .
و في الباب أحاديث مرسلة صحيحة إلى مرسليها تعتضد بها الأحاديث السالفة ، و هي :
- عن ابن أبي جريج قال :
" قلت لعطاء : أكان النبي – صلى الله عليه و سلم – يقوم إذا خطب على عصا ؟ قال : نعم ، كان يعتمد عليها اعتمادًا ".
أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه " في باب اعتماد رسول الله صلى الله عليه و سلم على العصا برقم ( 5246 ) ، و الشافعي في " الأم " ( 1/200 ) في باب الخطبة قائمًا ، و " المسند " ( 1/66 ) برقم ( 421 ) ، و البيهقي في " السنن الكبرى " في باب الإمام يعتمد على عصا أو قوس أو ما أشبههما إذا خطب ( 5543 ).
قال الألباني رحمه الله : إسناد مرسل صحيح .
و قد رواه الشافعي في " الأم " ( 1/238 ) و في "المسند " برقم ( 422 ) من وجه آخر ؛ أخبرنا إبراهيم بن محمد ، حدثني الليث ، عن عطاء :" أنّ رسول الله – صلى اللله عليه و سلم – كان إذا خطب يعتمد على عَنَزَته اعتمادًا " .
و هذا ضعيف جدّا ؛ لضعف إبراهيم و الليث . و اقتصر الحافظ في " التلخيص " ( 2/65 ) و الشوكاني في " نيل الأوطار " ( 3/269 ) في تضعيفه على الليث . و وهم الشيخ الألباني رحمه الله فقال في " الضعيفة " ( 2/381 ) : " ليس الحديث عند الشافعي بهذا الإسناد " ، و كأنه ذهل عنه ، كما ذهل الإمامان ابن حجر و الشوكاني عن الرواية الأولى الصحيحة .
- عن ابن شهاب الزهري قال :
" بلغنا أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يبدأ فيجلس على المنبر ، فإذا سكت المؤذن قام فخطب الخطبة الأولى ، ثم جلس شيئاً يسيراً ، ثم قام فخطب الخطبة الثانية حتى إذا قضاها استغفر ، ثم نزل فصلى ، فكان إذا قام أخذ عصا فتوكأ عليها وهو قائم ".
أخرجه أبو داود في " المراسيل " برقم ( 57 ) ، حدثنا ابن السرح ، وحدثنا سليمان بن داود ،قال : أنبأ ابن وهب أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، به .
و إسناده صحيح .
و رواه في " المدونة الكبرى " ( 1/150 ) عن ابن وهب به . و سيأتي لفظه لاحقًا إن شاء الله تعالى .
- عن ابن جريج قال :
" بلغني أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جمع بأصحابه في سفر وخطبهم متوكئاً على قوس ".
أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه " في باب القرى الصغار ، برقم (5182 ). عن ابن جريج به .
و سنده صحيح.
- عن سعيد بن المسيب :
" أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يتوكأ على عصا وهو يخطب يوم الجمعة ، إذ كان يخطب إلى الجذع فلما صنع المنبر قام عليه ، وتوكأ على العصا أيضاً ."
أخرجه عبد الرزاق في " المصنف " برقم ( 5215 ) عن رجل من أسلم ، عن أبي جابر البياضي ، عن ابن المسيب ، به.
قلت : فيه علتان ؛
جهالة شيخ عبد الرزاق ،
و ضعف أبي جابر بل قال الإمام أحمد : " منكر الحديث جدا " ، وعن مالك قال :"كنا نتهمه بالكذب " ، وقال ابن معين :" ليس بثقة ، حدث عنه ابن أبي ذئب " ، وروى عباس عن يحيى :" كذاب " ، وقال النسائي وغيره :" متروك الحديث ".اهـ من " الميزان " ( 6/224 ).
- عن معمر قال :
" سمعت بعض أهل المدينة يذكر أن النبَّي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خطب اعتمد على عصاه اعتمادا ".
أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه " برقم ( 5662 ) عن معمر به .
و هذه العصا التي كان يعتمد عليها النبيّ – صلى الله عليه و سلم - في الجمعات و غيرها من المناسبات ، كانت مشهورة عند المسلمين في الزمن الأول ، يتناوب عليها الخلفاء من الصحابة رضوان الله عليهم ؛
ففي " المدونة الكبرى " ( 1/150 ) : ابن وهب عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب أنه قال :
" بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبدأ فيجلس على المنبر فإذا سكت المؤذن قام فخطب الخطبة الأولى ، ثم جلس شيئا يسيرا ثم قام فخطب الخطبة الثانية حتى إذا قضاها استغفر الله ثم نزل فصلى . قال ابن شهاب : وكان إذا قام أخذ عصا فتوكأ عليها وهو قائم على المنبر ، ثم كان أبو بكر وعمر وعثمان يفعلون ذلك ".
هذا على وجه الإجمال ، و أمّا على وجه التفصيل فهذه بعض أخبارهم :
• عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
عن أنس رضي الله عنه : " أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأ على المنبر [ فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا ] إلى قوله: [ وَأَبًّا ] . فقال : كل هذا قد عرفناه ، فما الأب ؟ ثم رفع عصا كانت في يده فقال : هذا لعمر الله هو التكلف ، فما عليك يا ابن أم عمر أن لا تدري ما الأب . ابتغوا ما بيّن لكم من هذا الكتاب فاعملوا به ، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه ."
أخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه " ( 30105 ) وسعيد بن منصور برقم ( 43 ) من طريق يزيد بن هارون قال أخبرنا حميد عن أنس به .
وابن سعد ، وسعيد بن منصور برقم ( 43 ) ،
وعبد بن حميد : حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس به .
وابن جرير ( 30/59 ) عن حميد و عن موسى بن أنس عن أنس به .
وابن المنذر والحاكم برقم ( 3897 ) من طريق ابن شهاب به . وصححه وغيرهم.
وروى محمد بن كعب القرظي أن عمر قال على المنبر وفي يده عصا :" يا أيها الناس لا تمنعكم اليمين من حقوقكم ، فوالذي نفسي بيده إن في يدي لعصا ".
ذكره الشيرازي في " المهذب " ( 2/128 ) ، و المقدسي في " المغني " ( 9/388 ).
• عثمان بن عفان رضي الله عنه :
عن موسى بن طلحة قال :
" كان عثمان يوم الجمعة يتوكأ على عصا ، وكان أجمل الناس ، وعليه ثوبان أصفران إزار ورداء حتى يأتي المنبر ، فيجلس عليه ".
أخرجه الطبراني في " الكبير " برقم ( 93 ) حدثنا المقدام بن داود ثنا خالد بن نزار ثنا إسحاق بن يحيى بن طلحة عن عمه موسى بن طلحة به.
قال الهيثمي في " الزوائد " ( 9/80 ) : رواه الطبراني عن شيخه المقدام بن داود وهو ضعيف .
قلت : تابعه ابن سعد في " الطبقات " ( 3/59 ) : قال أخبرنا محمد بن عمر قال أخبرنا إسحاق بن يحيى عن عمه موسى بن طلحة قال :
" رأيت عثمان يخرج يوم الجمعة عليه ثوبان أصفران فيجلس على المنبر فيؤذن المؤذن وهو يتحدث يسأل عن أسعارهم وعن أخبارهم وعن مرضاهم ثم إذا سكت المؤذن قام يتوكأ على عصا عقفاء فيخطب وهي في يده ثم يجلس جلسة فيبتديء كلام الناس فيسألهم كمسألته الأولى ثم يقوم فيخطب ثم ينزل ويقيم المؤذن ".
و عن يحيى بن عبدالرحمن بن خاطب عن أبيه قال :
" أنا أنظر إلى عثمان يخطب على عصا النبي- صلى الله عليه وسلم - التي كان يخطب عليها وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما . فقال له جهجاه : " قم يا نعثل فانزل عن هذا المنبر" ، وأخذ العصا فكسرها على ركبته اليمنى فدخلت شظية منها فيها ، فبقي الجرح حتى أصابته الأكلة فرأيتها تدود . فنزل عثمان وحملوه وأمر بالعصا فشدوها فكانت مضببة فما خرج بعد ذلك اليوم إلا خرجة أو خرجتين حتى حصر فقتل ".
أخرجه الطبري في " تاريخه " ( 2/262) عن محمد بن عمر الواقدي ، وحدثني أسامة بن زيد الليثي عن يحيى بن عبدالرحمن بن خاطب عن أبيه ، به .
قلت : و الواقدي و إن ضُعف إلا أنه يستشهد به في مثل هذا .
و يقويه ما رواه نافع :
" أن الغفاري أخذ عصا كانت في يد عثمان فكسرها على ركبته فرمى في ذلك المكان بأكلة ".
أخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه " برقم ( 37084 ) ، و الطبري في " تاريخه " ( 2/262 )
من طريق عبد الله بن إدريس عن عبيد الله بن عمر عن نافع ، به .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في " الإصابة " ( 1/519 ) :
" روى الباوردي من طريق الوليد بن مسلم عن مالك وغيره عن نافع عن بن عمر قال :
" قدم جهجاه الغفاري إلى عثمان وهو على المنبر فأخذ عصاه فكسرها ، فما حال على جهجاه الحول حتى أرسل الله في يده الأكلة فمات منها "
ورواه بن السكن من طريق سليمان بن بلال وعبد الله بن إدريس عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر مثله .
ورواه من طريق فليح بن سليمان عن عمته وأبيها وعمها أنهما حضرا عثمان قال :" فقام إليه جهجاه بن سعيد الغفاري حتى أخذ القضيب من يده فوضعها على ركبته فكسرها فصاح به الناس ونزل عثمان فدخل داره ، ورمى الله الغفاري في ركبته فلم يحل عليه الحول حتى مات ".
ورويناه في " المحامليات " من طريق حماد بن زيد عن يزيد بن حازم عن سليمان بن يسار : " أن جهجاه الغفاري..." نحو الأول ." انتهى كلام الحافظ .
قلت : كذلك رواه ابن أبي الدنيا في " العقوبات " ( 335 ) حدثنا أحمد بن المقدام قال : أخبرنا حماد بن زيد به .
وعن زيد بن وهب قال :" كان عمار قد ولع بقريش وولعت به فعدوا عليه فضربوه ، فخرج عثمان بعصا فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا أيها الناس مالي ولقريش وقد عدوا على رجل فضربوه ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: " تقتلك الفئة الباغية ".
قال الهيثمي في " الزوائد " ( 7/242 ) : " رواه أبو يعلى والطبراني في الثلاثة باختصار القصة وفيه أحمد بن بديل الرملي وثقه النسائي وغيره وفيه ضعف ."
قلت : عند الطبراني في " الصغير " برقم ( 516 ) ، حدثنا عمر بن محمد بن عمرويه المخرمي البغدادي حدثنا أحمد بن بديل القاضي حدثنا يحيى بن عيسى الرملي عن الأعمش عن زيد بن وهب ، به .
و قال الذهبي في " السير " ( 1/420 ) : " و رواه أبو عوانة في مسنده وأبو يعلى من حديث أحمد بن محمد الباهلي حدثنا يحيى بن عيسى ، به ... وأخرج أبو عوانة أيضا مثله من حديث القاسم الحداني عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن عبد الله بن محمد بن الحنفية عن أبيه عن عثمان ."اهـ
قلت : و هذه الآثار تشبه التواتر في ثبوت الإتكاء على العصا عن عثمان رضي الله عنه ، و أنّها كانت عصا رسول الله صلى الله عليه و سلم .
• علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
عن أبي المليح قال :
" لما قتل عثمان رضي الله عنه خرج علي إلى السوق وذلك يوم السبت لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة فاتبعه الناس في وجهه بني عمرو بن مبذول وقال لأبي عمرة بن عمرو بن محصن أغلق الباب فجاء الناس فقرعوا الباب فدخلوا فيهم طلحة والزبير فقالا يا علي ابسط يدك فبايعه طلحة والزبير فنظر حبيب بن ذؤيب إلى طلحة حين بايع فقال أول من بدأ بالبيعة يد شلاء لا يتم هذا الأمر وخرج علي إلى المسجد فصعد المنبر وعليه إزار وطاق وعمامة خز ونعلاه في يده متوكئا على قوس فبايعه الناس ".
أخرجه الطبري في " تاريخه " ( 2/697 ) وحدثني عمر بن شبة قال حدثنا علي بن محمد قال أخبرنا أبو بكر الهذلي عن أبي المليح ، به .
قلت : أبو بكر الهذلي و اسمه سلمى ، قال الذهبي في " الكاشف " ( 2/414 ) : واهٍ . و قال الحافظ في " التقريب " ( 1/625 ) : " أخباري متروك الحديث من السادسة ".
• عبد الله بن الزبير رضي الله عنه :
عن هشام بن عروة قال :
" رأيت عبد الله بن الزبير يخطب وفي يده عصا ".
أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه " برقم ( 5659 ) عن الثوري عن هشام بن عروة ، به .
و هذا سند صحيح .
و رواه الخطيب البغدادي في " تاريخ بغداد " ( 14/38 ) من طريق علي بن مسهر عن هشام قال :
" رأيت عبد الله بن الزبير بمكة يصعد المنبر يوم الجمعة وفي يده عصا فيسلم ثم يجلس على المنبر ويؤذن والمؤذنون ، فإذا فرغوا من اذانهم قام فتوكا على العصا فخطب ، فإذا فرغ من خطبته جلس دون أن يتكلم ثم يقوم فيخطب فإذا فرغ من خطبته نزل ".
• عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :
عن علقمة : " أن عبد الله بن مسعود كان يقوم قائما كل عشية خميس فما سمعته في عشية منها قال : " قال رسول الله صلى الله عليه و سلم " مرة واحدة فنظرت إليه وهو معتمد على عصا ، فنظرت إلى العصا تزعزع ".
أخرجه ابن سعد في " الطبقات الكبرى " ( 3/157 ) و الطبراني في " الأوسط " ( 2/278 ) برقم ( 1981 )
قال أخبرنا عبد العزيز بن المختار عن منصور الغُداني عن الشعبي عن علقمة ، به .
قلت : هذا سند رجاله رجال الشيخين ، ما عدا ( الغُداني ) و هو منصور بن عبد الرحمن الأشل ، روى له مسلم .
قال في " الميزان " ( 6/520 ) : " وثقه ابن معين ،
وقال أبو حاتم : لا يحتج به .
وقال أحمد : ثقة إلا أنه يخالف في أحاديث ،
وقال النسائي : ليس به بأس ".
فالأثر صحيح .
و لا يقال : أنه ليس في الأثر أنّ ذلك كان في خطبة ، فقد أخرج ابن سعد في " الطبقات " ( 3/157 ) قال :
أخبرنا عفان بن مسلم وهشام أبو الوليد الطيالسي ويحيى بن عباد قالوا أخبرنا شعبة عن جامع بن شداد قال أخبرنا عبد الله بن مرداس قال :
" كان عبد الله يخطبنا كل خميس فيتكلم بكلمات فيسكت حين يسكت ونحن نشتهي أن يزيدنا ".
و يشهد لذلك ما رواه أحمد في " مسنده " ( 3996 ) عن أبي الأحوص الجشمي قال : بينما ابن مسعود يخطب ذات يوم ، إذ مر بحية تمشي على الجدار فقطع خطبته ثم ضربها بقضيبه حتى قتلها ، ثم قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من قتل حية فكأنما قتل رجلا مشركا قد حل دمه ".
و إسناده ضعيف .
و بالجملة ، فإنّ أمر الإعتماد على عصا عند الخطب كان مقرّرًا ، و لا يزال سلف هذه الأمة يفعلونه إلى يوم الناس هذا .
و من السلف الذين ورد عنهم ذلك ؛
• عمر بن عبد العزيز :
فعن طلحة بن يحيى قال : " رأيت عمر بن عبد العزيز يخطب وبيده قضيب ".
أخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه " في باب العصا يتوكأ عليها إذا خطب ، ( 5563 ) قال : حدثنا وكيع عن طلحة بن يحيى ، به .
و في رواية ( 5207 ) بالإسناد ذاته بلفظ : " سمعت عمر بن عبد العزيز يقرأ و هو على المنبر [ و أنيبوا إلى ربّكم و أسلموا له ] و في يده عصا ".
و إسناده صحيح .
و كذلك هو الشأن عند أئمة المسلمين المقتدى بهم :
ففي " المدونة " ( 1/151 ) : " وقال مالك : وذلك مما يستحب للأئمة أصحاب المنابر أن يخطبوا يوم الجمعة ومعهم العصيّ يتوكؤون عليها في قيامهم ، وهو الذي رأينا وسمعنا ".
و في قول الإمام مالك هذا دليل على جريان العمل على ذلك ، و أنه من أمر الناس القديم الذي توارثوه و تواطئوا عليه .
و قال في موضع آخر ( 1/156 ) : " وقال مالك في خطبة الإمام يوم الجمعة : يمسك بيده عصا ، قال مالك : وهو من أمر الناس القديم . قلت له : أعمود المنبر - يعني مالك - أم عصا سواه ؟ قال : لا بل عصا سواه ".
و في هذا ردّ على من يكتفي بالإعتماد على أعواد المنبر أو حوافّه .
و في " الأم " ( 1/200 ) قال الإمام الشافعي رحمه الله : " ويعتمد الذي يخطب على عصا أو قوس أو ما أشبههما ، لأنه بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتمد على عصا ".
قلت : و كذلك هو مذهب كل الأئمة ؛
قال أبو إسحاق الشيرازي في " المهذب " ( 1/112 ) : " ويستحب أن يعتمد على قوس أو عصا لما روى الحكم بن حزن قال : وفدت على النبي صلى الله عليه وسلم...".
و أقره النووي رحمه الله في " المجموع " ( 4 /445 ) فقال : " يسن أن يعتمد على قوس أو سيف أو عصا أو نحوها لما سبق ".
و قال ابن مفلح الحنبلي في " المبدع " ( 2/163 ) : " ويعتمد على سيف أو قوس أو عصا لما روى الحكم بن حزن ... ولأنه أمكن له ، وإشارة إلى أن هذا الدين فتح به ".
و سيأتي تعليق ابن القيم رحمه الله على هذا قريبًا إن شاء الله .
و أمّا الأحناف ففي " الدر المختار " ( 2/163 ) : " ... وفي " الحاوي القدسي " : إذا فرغ المؤذنون قام الإمام والسيف في يساره وهو متكىء عليه . وفي " الخلاصة " : ويكره أن يتكىء على قوس أو عصا ".
لكن في " حاشية ابن عابدين " ( 2/163 ) : " قوله : " وفي الخلاصة ...إلخ " استشكله في " الحلية " بأنه في رواية أبي داود أنه قام - أي في الخطبة - متوكئا على عصا أو قوس . ونقل القهستاني عن عبد المحيط : أن أخذ العصا سنة كالقيام ".اهـ
و في " رسالة القيرواني " ( 1/47 ) من المالكية : " والجمعة تجب بالمصر والجماعة ، والخطبة فيها واجبة قبل الصلاة ، ويتوكأ الإمام على قوس أو عصا ، ويجلس في أولها وفي وسطها ....".اهـ
و قال ابن القيم رحمه الله في " الزاد " ( 1/189 ) :
" وكان إذا قام يخطب أخذ عصا فتوكأ عليها وهو على المنبر ، كذا ذكره عنه أبو داود عن ابن شهاب ، وكان الخلفاء الثلاثة بعده يفعلون ذلك ، وكان أحيانا يتوكأ على قوس ، ولم يحفظ عنه أنه توكأ على سيف .
وكثير من الجهلة يظن أنه كان يمسك السيف على المنبر إشارة إلى أن الدين إنما قام بالسيف ، وهذا جهل قبيح من وجهين ؛
أحدهما : أن المحفوظ أنه - صلى الله عليه وسلم - توكأ على ا لعصا وعلى القوس .
الثاني : أن الدين إنما قام بالوحي ، وأما السيف فلمحق أهل الضلال والشرك ، ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يخطب فيها إنما فتحت بالقرآن ولم تفتح بالسيف ".اهـ
قلت : هذا الذي قاله ابن القيم رحمه الله أولاً هو الصواب . لكنّه خالف بعد ذلك فقال ( 1/429 ) :
" ولم يكن يأخذ بيده سيفًا ولا غيره ، وإنما كان يعتمد على قوس أو عصا قبل أن يتخذ المنبر ، وكان في الحرب يعتمد على قوس ، وفي الجمعة يعتمد على عصا . ولم يحفظ عنه أنه اعتمد على سيف ، وما يظنه بعض الجهال أنه كان يعتمد على السيف دائما وأن ذلك إشارة إلى أن الدين قام بالسيف ، فمن فرط جهله . فإنه لا يحفظ عنه بعد اتخاذ المنبر أنه كان يرقاه بسيف ولا قوس ولا غيره ، ولا قبل اتخاذه أنه أخذ بيده سيفا البتة ، وإنما كان يعتمد على عصا أو قوس ".اهـ
و كلامه هذا اغتر به بعض الناس ، حتى أنّ البرهان الحلبي رحمه الله قال في " سيرته " (2/352) :
"... وقول صاحب الهدي - يعني ابن القيم - : وكان قبل أن يتخذ المنبر يعتمد على قوس أو عصا ، يقتضي أن بعد اتخاذ المنبرلم يعتمد على شيء من ذلك ، أي وصرح به صاحب القاموس في ( سفر السعادة ) ح
اعتماد الخطيب على عصا
سنة من سنن الحبيب المصطفى
الحمد لله و هو أهلٌ للحمد ، حمدًا لا يحصيه عدّ ، و لا يحيط به ثناء مهما جدّ . و الصلاة و السلام على نبيّه و صفيّه محمد ، نصح فأبلغ ، و دعا فبلّغ ، فيا سعادة من جعله دليلاً ، و اتخذ شرعه منهجًا و سبيلاً .
أمّا بعد ، فقد اشتهر بين كثير من الأئمّة الشباب و بعض طلبة العلم على أنّ حمل العصا أثناء الخطبة يوم الجمعة أمر محدث مخالف للسنّة . و صار الوقوف على المنبر بلا عصا شعارًا لاتّباع السلف . و تتابع كثير من الخطباء على ذلك حتى عزّ مَن تراه معتمدًا في خطبته على عصا . بل و رُفعت العصيّ من مساجد كثيرة بعد أن كانت لقرون طويلة جزءًا من شعيرة الجمعة .
و هذا ما دفعني إلى كتابة هذا الجزء ، لأنبّه إخواني الأئمّة إلى التبصر و عدم التسرع في الحكم على الأشياء قبل التمحيص و النظر . فأقول مستمدًّا من الله العون :
اعلم - شرح الله صدري و صدرك للحق - أن اعتماد الخطيب في خطبته على عصا هو من الأمر القديم الذي توارثته الأمة خلفًا عن سلف . و هو الذي لم يزل رسول الله - صلى الله عليه و سلم - و أصحابه من بعده يفعلونه ، حتى أنّ الإمام القرطبي رحمه الله ذكر انعقاد الإجماع على ذلك . و ذلك عند تفسير قول الله تعالى قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ) ،
و قال رحمه الله في موضع آخر (11/169 ) :" ... واتخذها سليمان لخطبته وموعظته وطول صلاته ، وكان ابن مسعود صاحب عصا النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنزته ، وكان يخطب بالقضيب ، وكفى بذلك فضلا على شرف حال العصا . وعلى ذلك الخلفاء وكبراء الخطباء وعادة العرب العرباء الفصحاء اللسن البلغاء أخذ المخصرة والعصا والاعتماد عليها عند الكلام وفي المحافل والخطب ..." اهـ
و قد جمعت في هذا الباب جملة صالحة من الأحاديث و الآثار التي تبيّن أن الإعتماد على العصيّ أو القسيّ في حال الخطبة هو من صميم هدي النبي - صلى الله عليه و سلم - و السلف الصالح رضوان الله عليهم ، و هذا بيانه :
• الحديث الأول :
عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قال :
" ... سمعت نداء المنادي - منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم - ينادي : " الصلاة جامعة " ، فخرجت إلى المسجد فصليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكنت في صف النساء التي تلي ظهور القوم . فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -صلاته جلس على المنبر وهو يضحك ، فقال : " ليلزم كل إنسان مصلاه " ، ثم قال : " أتدرون لم جمعتكم ؟ " ، قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة ، ولكن جمعتكم لأن تميما الداري كان رجلا نصرانيا فجاء فبايع وأسلم وحدثني حديثًا وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال... الحديث ".
إلى أن قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطعن بمخصرته في المنبر ، : " هذه طيبة ، هذه طيبة ، هذه طيبة - يعني المدينة - ألا هل كنت حدثتكم ذلك ؟ " ، فقال الناس : نعم ... إلى آخر الحديث "
أخرجه مسلم في " صحيحه " مطولاً برقم ( 2942) في باب قصة الجساسة ، من طرق عن الإمام عامر بن شراحيل الشعبي رحمه الله أنه سأل فاطمة بنت قيس , أخت الضحاك بن قيس ، - وكانت من المهاجرات الأول – فقال : حدثيني حديثًا سمعتيه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تسنديه إلى أحد غيره ؟ فقالت : لئن شئت لأفعلن . فقال لها : أجل حدثيني ...
و أبوداود في " السنن " باب : في خبر الجساسة برقم ( 4325 إلى 4328 ) ،
و الترمذي برقم ( 2253 ) و صححه ، و النسائي في " السنن الكبرى " برقم ( 4258 ) ، و ابن ماجة برقم ( 4074 ) .
و أخرجه كذلك ابن أبي شيبة في " مصنفه " برقم ( 37520 و 37636 ) ، و ابن حبان في " صحيحه " برقم ( 6787 إلى 6789 ) ، و الطبراني في " الكبير " في ترجمة فاطمة بنت قيس رضي الله عنها ، و غيرهم ...
و هذا حديث عزيز فتح الله به علي ّ ، و لم أرَ من ذكره قبلي في هذا الباب ، فالحمد لله الذي تتمّ بنعمته الصالحات .
و قوله " جلس على المنبر " أي ليسكّن الناس أولاً ، و قد جاء ذلك مبيَّنًا في رواية :
" قالت : صلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم الظهر ثم صعد المنبر فاستنكر الناس ذلك فبين قائم وجالس ، ولم يكن يصعده قبل ذلك إلا يوم الجمعة ، فأشار إليهم بيده أن اجلسوا ثم قال : والله ما قمت مقامي هذا لأمر ينفعكم لرغبة ولا لرهبة ولكن تميما الداري ...." إلخ
و في رواية :
" قالت : قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فسمع الناس أنه قام على المنبر فأقبل الناس يشتدون وكنت ممن أتاه فسمعته يقول..."
و قوله " و طعن بمخصرته " أي ضرب بها المنبر ، كما ورد في رواية أخرى .
و المخصرة ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ( الفتح 6/213 ) :
" وهي عصا يمسكها الكبير يتكئ عليها ، وكان قضيبه - صلى الله عليه وسلم - من شوحط ، وكانت عند الخلفاء بعده حتى كسرها جهجاه الغفاري في زمن عثمان ."اهـ
قلت : و سيأتي ذكر ذلك قريبًا إن شاء الله .
و الحديث دليل قويّ للردّ على من يفرق في الإتكاء ، بين كون الخطيب على منبر أو على غيره . و سيأتي مزيد بيان لهذا لاحقًا بإذن الله .
• الحديث الثاني :
عن الحكم بن حزن الكلفي رضي الله عنه قال:
" وفدت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سابع سبعة أو تاسع تسعة فدخلنا عليه فقلنا : يا رسول الله زرناك فادع الله لنا بخير . فأمر بنا - أو أمر لنا - بشيء من التمر ، والشأن إذ ذاك دون ، فأقمنا بها أياما شهدنا فيها الجمعة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام متوكئًا على عصا أو قوس ، فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات ثم قال : " أيها الناس إنكم لن تطيقوا - أو لن تفعلوا - كل ما أمرتم به ، ولكن سددوا وأبشروا ."
أخرجه أحمد في " مسنده " ( 4 / 212 ) ،
وأبوداود في " سننه " برقم (1096 ) في ( باب : الرجل يخطب على قوس )
ومن طريقه البيهقي في " السنن الصغرى " ( 1/263 ) ، وأبويعلى في " مسنده " برقم (6826 )
وابن خزيمة في " صحيحه " برقم ( 1452 ) في ( باب الاعتماد على القسي أو العصي على المنبر في الخطبة ) ، و غيرهم ...
من طرق عن شهاب بن خراش ، حدثني شعيب بن رزيق الطائفي ، قال : جلست إلى رجل له صحبة من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، يقال له : الحكم بن حزن الكُلفي ، فأنشأ يحدثنا ، قال : " وفدت .... " فذكره .
والحديث صححه ابن خزيمة و ابن السكن ، كما في " تلخيص الحبير " ( 2/ 65)
و حسّن إسناده الحافظ ابن حجر في " تلخيص الحبير " ( 2 / 65 ) ، والألباني رحمه الله في " الإرواء " ( 3/78 )
قلت : إسناده حسن ؛ شهاب بن خراش قال أحمد وأبوزرعة : " لا بأس به "،
وقال ابن معين والنسائي : " ليس به بأس " ( ميزان الإعتدال 3/387 ) ،
وقال أبوحاتم : "صدوق لا بأس به " ( الجرح و التعديل 4/362) ،
و وثقه ابن المبارك و الدارقطني والحاكم ، وذكره ابن حبان في( الثقات ) وقال : " يخطئ ويدلس " ،
قال الحافظ : والأكثر وثقوه . كذا في ( تلخيص الحبير 2/65 )
قال الشوكاني رحمه الله في " النيل " ( 3/330 ) : " الحديث فيه مشروعية الاعتماد على سيف أو عصى حال الخطبة ".
و كذلك الأمير الصنعاني رحمه الله ، قال في " سبل السلام " ( 2/59 ) : " وفي الحديث دليل على أنه يندب للخطيب الاعتماد على سيف أو نحوه ".
قلت : و اعتذر الشيخ الألباني رحمه الله عن العمل به – مع تصحيحه إياه – بكون ذلك كان قبل اتخاذ المنبر . قال : و يدل عليه قوله في الحديث : " والشأن إذ ذاك دون " . قال : فقوله ذلك يشعر بأنّه قدم عليه - صلى الله عليه و سلم - و الزمان زمان فقر و ضيق في العيش , و ليس هذا الوصف بالذي ينطبق على زمان فتح مكة كما هو ظاهر , فإنّه زمن فتح و نصر و خيرات و بركات , فالذي يبدو لي أنّه أسلم في أوائل قدومه - صلى الله عليه و سلم - إلى المدينة . و الله أعلم .اهـ
و هذا متعقَّب من جهتين :
الأولى : تأخر إسلام الحكم بن حزن رضي الله عنه ، فقد قال ابن عبد البر : إنه أسلم عام الفتح ، وقتل يوم اليمامة ". كذا في " سبل السلام " ( 2/59 )
لكنّ الشيخ الألباني رحمه الله تعقبه بقوله : لم أر من ذكر هذا ممن ألّف في تراجم الصحابة و غيرهم , و إنّما ذكره الصنعاني في " سبل السلام " ( 2 – 65 ) عند الكلام على حديثه المتقدم , فقال :
" قال ابن عبد البر : إنّه أسلم عام الفتح , و قيل يوم اليمامة , و أبوه حزن بن أبي وهب المخزومي " .
و قد رجعت إلى كتاب " الاستيعاب " لابن عبد البر , فلم أره ذكر ذلك , ثم عدت إلى الكتب الأخرى مثل " أسد الغابة " لابن الأثير , و " تجريده " للذهبي , و " الإصابة " و " تهذيب التهذيب " للعسقلاني , فلم أجدهم زادوا على ما في " الاستيعاب " ! فلو كان لذلك أصل عند ابن عبد البر لما خفي عليهم جميعا , و لما أغفلوه , لا سيما , و ترجمته عندهم جرداء ليس فيها إلاّ أنّه روى هذا الحديث الواحد .اهـ
قلت :
الأمر كما قال الألباني رحمه الله ، و يبدو أن الأمير الصنعاني قد ذهل و هو يقرأ ( الإستيعاب ) و وقع له اشتباه بين ( الحكم بن حزن ) و ( الحكيم بن حزن ) . و قد رجعت إلى ترجمة هذا الأخير فوجدته في " الإستيعاب " ( 1/107 ) أنه " أسلم عام الفتح مع أبيه و قُتل يوم اليمامة شهيدًا ".
ملحوظة : الذي في " سبل السلام " - و قد نقله كذلك الألباني رحمه الله - : ( و قيل يوم اليمامة ) ، و هو تصحيف من ( قتل يوم اليمامة ) .
و مهما يكن ، فما ذكره الألباني رحمه الله محض استنتاج لا يتمّ الإستدلال به و لا يسلم من نظر .
و يرده حديث طلحة بن عمرو النصري - وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال :
" أتيت المدينة وليس لي بها معرفة ، فنزلت في الصفة مع رجل ، وكان بيني وبينه كل يوم مد من تمر . فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فلما انصرف قال رجل من أصحاب الصفة : يا رسول الله أحرق بطوننا التمر وتخرقت عنا الحنف . فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فخطب ثم قال : " لو وجدت خبزا أو لحما لأطعمتكموه أما إنكم توشكون - تدركون أو من أدرك ذلك منكم - أن يراح عليكم بالجفان وتلبسون مثل أستار الكعبة وقال : لقد مكثت أنا وصاحبي ثمانية عشرة يوما وليلة وما لنا طعام إلا البرير حتى جئنا إلى إخواننا من الأنصار فواسونا وكان خير ما أصبنا هذا التمر ".
رواه أحمد ( 16031 ) و الحاكم في " المستدرك " ( 4290 و 8648 ) و قال : هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه . و قال الذهبي في تعليقه على" التلخيص " : صحيح .
و قال شعيب الأرنؤوط في حديث أحمد : إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير داود بن أبي هند وأبي حرب - وهو ابن أبي الأسود - فمن رجال مسلم .
و الجهة الثانية : أنّ مبنى كلام الشيخ الألباني رحمه الله على قول من قال أنّ أول شأن المنبر كان في السنة الثامنة ، و هذا فيه نظر . فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ( الفتح 2/398 ) :
" وجزم ابن سعد بأن ذلك كان في السنة السابعة ، وفيه نظر لذكر العباس وتميم فيه ؛ وكان قدوم العباس بعد الفتح في آخر سنة ثمان ، وقدوم تميم سنة تسع . وجزم بن النجار بأن عمله كان سنة ثمان ، وفيه نظر أيضا لما ورد في حديث الإفك في الصحيحين عن عائشة ، قالت :
" فثار الحيان الأوس والخزرج حتى كادوا أن يقتتلوا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فنزل فخفضهم حتى سكتوا " . فإن حمل على التجوز في ذكر المنبر وإلا فهو أصح مما مضى ".اهـ
قلت : الأصل في الألفاظ أن تحمَل على الحقيقة و عدم التجوّز إلاّ بقرينة . و قد ورد ذكر المنبر في حديث الإفك مرتين ، و ليس مرة واحدة كما يوهم كلام الحافظ رحمه الله . الثانية حينما استعذر من ابن أبيّ بن سلول ، قالت عائشة رضي الله عنها :
" فقال رسول الله - وهو على المنبر - :يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا ..." إلخ .
بل و قد ذُكر مرة ثالثة حينما نزل براءة عائشة رضي الله عنها ؛
فقد أخرج أحمد (6/35 ) ، وأبو داود ( 4474 ) ، و الترمذي ( 3181 ) ، و النسائي في " الكبرى " ( 7351 ) ، و ابن ماجة ( 2567 ) ، والبيهقى في " السنن الكبرى " ( 8/250 ) و غيرهم ، من طرق عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة قالت :
" لما نزل عذري قام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدهم ".
قال الترمذي : هذا حديث حسن .
قلت : فيه محمد بن إسحاق و هو مشهور بالتدليس ، لكنه صرّح بالسماع عند البيهقي .
و الحاصل أنه من تأمل أخبار النبيّ – صلى الله عليه و سلم – تيقّن أنّ المنبر كان قبل هذا بكثير ، و هذا بيان ذلك :
عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال :
" لما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحُد صعد المنبر، فحمد الله عز وجل وأثنى عليه ثم قرأ هذه الآية [ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ] الآية كلها . فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله من هو ؟ فأقبلتُ وعليَّ ثوبان أخضران ، فقال : أيها السائل هذا منهم ".
أخرجه الطبري في " تفسيره " (21/147) ، و ابن أبي عاصم في " السنة " ( 1400 ) ، و ابن أبي حاتم كما في تفسير " ابن كثير " ( 3/477 )
وأخرجه الترمذي في التفسير والمناقب أيضا ، من حديث يونس بن بكير عن طلحة عن يحيى عن موسى وعيسى ابني طلحة عن أبيهما رضي الله عنه به وقال : حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يونس .اهـ
و رواه الضياء في " المختارة " ( 817 إلى 819 ) و حسنه . و له شواهد كثيرة تقويه و تؤيده .
و عن أبي سعيد بن المعلى قال :
" كنا نغدوا للسوق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنمر على المسجد فنصلي فيه . فمررنا يومًا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد على المنبر، فقلت : لقد حدث أمر. فجلست فقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم – [ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ ِفي السَّمَاءِ ]حتى فرغ من الآية . قلت لصاحبي : تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنكون أول من صلى . فتوارينا فصلينا ثم نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى للناس الظهر يومئذ ".
أخرجه النسائي في " الكبرى " ( 11004 ) ، أنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن أنا الليث نا خالد بن يزيد عن بن أبي هلال قال أخبرني مروان بي عثمان أن عبيد بن حنين أخبره عن أبي سعيد بن المعلى ، به .
و هذا سند صحيح رجاله كلهم ثقات .
و رواه البخاري في " الكنى " ( 1/33 ) ، من طريق عبد الله بن صالح قال : حدثني الليث ، به.
و هذا أمر يطول لو استقصيناه ، و يمكن أن يفرَد في جزء ، و لكن حسبي أني بيّنت بما سبق أنّ المنبر أقدم بكثير ممّا ذُكر . و هذا أولى بالإعتماد من أقوال بعض الإخباريين التي لا تستند إلى دليل .
تنبيه : القوس المذكورة في حديث الحكم بن حزن رضي الله عنه و في غيره من أحاديث الباب هي القوس العربية ، و هي شبيهة بالعصا و لا تختلف عليها إلا في الوتر . بخلاف القوس الفارسية فإنها منحنية ، و قد رُوي النهي عن اتخاذها لعدم الإنتفاع بها بعد انقطاع وترها . و عليه ، فإنّ شك الراوي – و هو ممن دون الصحابي – لا يؤثر في الحكم .
• الحديث الثالث :
عن جابر بن عبدالله – رضي الله عنه – قال:
" بدأ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالصلاة قبل الخطبة في العيدين بغير أذان ولا إقامة ، قال : ثم خطب الرجال وهو متوكئ على قوس ، قال : ثم أتى النساء فخطبهن وحثهن على الصدقة ، قال : فجعلن يطرحن القرطة والخواتيم والحلي إلى بلال ، قال : ولم يصل قبل الصلاة ولا بعده."
أخرجه أحمد في " مسنده " (3/314) ، والدارقطني في " سننه "(2/47) مختصرا ً .
عن أبي معاوية ، ثنا عبدالملك ، عن عطاء ، عن جابر بن عبدالله ، به .
قال الألباني رحمه الله في " الإرواء "(3/99) " إسناد صحيح على شرط مسلم "
قلت : لكن هناك من يزعم أن ذكر القوس في هذا الحديث شاذ ؛ فإن أبا معاوية هذا – كما قال - هو محمد بن خازم قال أحمد :" في غير حديث الأعمش مضطرب ، لا يحفظها جيّدًا ".
ولذلك ترجم له ابن حجر في " التقريب " بقوله : " ثقة ، أحفظ الناس لحديث الأعمش ، وقد يهم في حديث غيره ".
وقد خالفه جماعة فرووه عن عبدالملك بن أبي سليمان ، به , ولكنهم قالوا : " قام متوكئاً على بلال " بدلاً من : " وهو متوكئ على قوس " .
و الجواب : أن كلام الإمام أحمد و الحافظ ليس على إطلاقه ، و شأن الأئمة النظر في كل رواية على حدة . و قد أخرج له البخاري و غيره من الأئمة عن غير الأعمش ، و هي في الصحاح . مما يدل على أنهم كانوا ينتقون من أحاديثه ما تدل الشواهد و القرائن على صحته .
و اعلم أن ذكر ( التوكأ على قوس ) في الحديث لا يعارض ذكر ( التوكأ على بلال ) رضي الله عنه و لا يخالفه . و الذين رووا الحديث عن عبد الملك بن أبي سليمان رووه على أربعة ألفاظ :
- اللفظ الأول : الإقتصار على ذكر التوكأ على قوس ، رواه أبو خازم كما مر.
- و اللفظ الثاني : الإقتصار على ذكر التوكأ على بلال في الخطبة الأولى و عدم ذكرها عند موعظة النساء ، رواه ابن نمير عند مسلم ( 2/603 ) برقم (885) .
- و اللفظ الثالث : الإقتصار على ذكر التوكأ على بلال عند موعظة النساء دون الخطبة ، رواه يعلى بن عبيد عند الدارمي برقم ( 1610 ) و هو اللفظ الذي رواه ابن جريج عن عطاء ، رواية واحدة ،لم يختلف عليه فيه . أخرجه البخاري برقم ( 918 – 935 ) و مسلم برقم ( 885 ) و غيرهما ... و هذا يعني أنّ جريجًا لم يتابع عبد الملك إلا على رواية يعلى بن عبيد .
- و اللفظ الرابع : ذكر التوكأ على بلال في الحالتين ؛ أي عند الخطبة و عند موعظة النساء ، رواه يحيى بن سعيد عند أحمد ( 3/18) برقم (14460) و النسائي برقم (1575) ، و يزيد بن هارون ، و إسحاق بن يوسف كلاهما عند البيهقي و هما على التوالي برقم (6014) في باب أمر الإمام الناس في خطبته بطاعة الله عز وجل وحضهم على الصدقة والتقرب إلى الله سبحانه والكف عن معصيته .
و رقم (5993) في باب يبدأ بالصلاة قبل الخطبة .
و هناك من لم يتعرض للتوكئ أصلا ، كما هو الحال في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما و هو مخرج في الصحيحين ، و كل راوٍ ذكر ما حفظ ، و ليس ثمة - لمن تأمل - تعارض بين الروايات حتى يحكم على إحداها بالشذوذ . بل الجمع ممكن ، بل هو لائح مع أدنى تأمل ، و الجمع إذا أمكن فلا يصار إلا إليه ، كما هو مقرر في الأصول .
و يشهد لحديث الباب ، حديث البراء بن عازب رضي الله عنه ، قال :
" كنا جلوسا في المصلى يوم أضحى فأتانا رسول الله على الناس ثم قال : إن أول نسك يومكم هذا الصلاة قال : فتقدم فصلى ركعتين ثم سلم ثم استقبل الناس بوجهه وأعطي قوسا أو عصا فاتكأ عليه فحمد الله وأثنى عليه وأمرهم ونهاهم ...
إلى أن قال :
" ثم قال : يا بلال ، قال : فمشى واتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى النساء فقال : يا معشر النسوان تصدقن الصدقة خير لكن ، قال : فما رأيت يوما قط أكثر خدمة مقطوعة وقلادة وقرطا من ذلك اليوم ."
رواه أحمد ( 4/282 ) و سيأتي قريبًا إن شاء الله .
• الحديث الرابع :
عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه :
" أنّ النبيّ - صلى الله عليه و سلم - كان يخطب بمخصرة في يده " .
أخرجه البزار ( 1/306-307 ) ، و أبو نعيم في الحلية ( 3/167 ) ، و ابن سعد في الطبقات ( 1/377 ) ، و أبو الشيخ في " أخلاق النبي صلى الله عليه و سلم " ( 184 /441 )
من طريق عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه به .
قال الألباني رحمه الله في " الضعيفة " : رجاله ثقات ، إلا أنّ فيه ابن لهيعة ، سيء الحفظ .
و كذلك قال الحافظ الهيثمي في ( الزوائد 2/187 ) من قبل : " رواه الطبراني في الكبير والبزار وفيه ابن لهيعة وفيه كلام "
قلت : الأكثرون يعتبرون بروايته في الشواهد و المتابعات . منهم الهيثمي نفسه في ( مجمع الزوائد ) و حسّن الترمذي في سننه بعض أحاديثه منها مثلا رقم ( 40-1589-1644-1652-2903-و 3641 إلخ ...) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ( الفتح 4/93 ) و هو يتكلم في حديث : " وفي إسناده ابن لهيعة ولا بأس به في المتابعات " .
و قال الوادياشي في ( تحفة المحتاج 1/427 ) : "وقد ضعفوه ولكن لم يطرح ، فقد صحح بعض الأئمة حديث ابن المبارك وابن وهب عنه واحتج به . وقال ابن عدي : أحاديثه حسان ، وقال ابن وهب : كان صادقًا ، وروى له مسلم مقرونا ووقع ذكره في البخاري من غير تسمية ".
و قال الترمذي في علله ( 1/744 ) :
" ... وكذلك من تكلم من أهل العلم في مجالد بن سعيد ، وعبد الله بن لهيعة وغيرهم ، إنما تكلموا فيهم من قبل حفظهم وكثرة خطئهم وقد روى عنه غير واحد من الأئمة فإذا انفرد أحد من هؤلاء بحديث ولم يتابع عليه لم يحتج به كما قال أحمد بن حنبل: ابن أبي ليلى لا يحتج به ، إنما عنى إذا تفرد بالشيء ."
و قال الشوكاني رحمه الله في ( النيل 7/26 ) :
" وابن لهيعة ليس بساقط الحديث فإنه إمام حافظ كبير ولهذا أورده الذهبي في تذكرة الحفاظ ، وقال أحمد بن حنبل : من كان مثل ابن لهيعة بمصر في كثرة حديثه وضبطه وإتقانه . وقال أحمد بن صالح :كان ابن لهيعة صحيح الكتاب طلابا للعلم . وقال يحيى بن القطان وجماعة : إنه ضعيف ، وقال ابن معين : ليس بذاك القوي ، وهذا جرح مجمل لا يقبل عند بعض أئمة الجرح والتعديل . وقد قيل : إن السبب في تضعيفه احتراق كتبه وأنه بعد ذلك حدث من حفظه فخلط ، وإن من حدث عنه قبل احتراق كتبه كابن المبارك وغيره حديثهم عنه قوي وبعضهم يصححه ، وهذا التفصيل هو الصواب ".
قلت : و حديث الباب عند أحمد من طريقين أحدهما عن ( سعيد بن قتيبة ) و روايته عن ابن لهيعة صحيحة ؛ ففي ( سير أعلام النبلاء للذهبي رحمه الله 8/17 ) : " قال قتيبة : قال لي أحمد بن حنبل أحاديثك عن ابن لهيعة صحاح . فقلت : لأنا كنا نكتب من كتاب ابن وهب ثم نسمعه من ابن لهيعة ".
و أعدل ما قرأت عنه قول الذهبي رحمه في ( سير أعلام النبلاء 8/14 ) : " لا ريب أن ابن لهيعة كان عالم الديار المصرية هو والليث معا كما كان الإمام مالك في ذلك العصر عالم المدينة ... ولكن ابن لهيعة تهاون بالإتقان وروى مناكير فانحط عن رتبة الاحتجاج به عندهم وبعض الحفاظ يروي حديثه ويذكره في الشواهد والاعتبارات والزهد والملاحم لا في الأصول وبعضهم يبالغ في وهنه . ولا ينبغي إهداره وتتجنب تلك المناكير فإنه عدل في نفسه ، وقد ولي قضاء الإقليم في دولة المنصور دون السنة وصرف ".اهـ
و الخلاصة : أن الحديث حسن لغيره على أقل تقدير ، و يشهد له ما سبق و ما سيأتي من فعل عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما .
• الحديث الخامس :
عن عبدالرحمن بن خالد العدواني عن أبيه :
" أنه أبصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مشرق ثقيف ، وهو قائم على قوس أو عصا ، حين أتاهم يبتغي عندهم النصر. قال : فسمعته يقرأ [ والسماء والطارق ] حتى ختمها . قال : فوعيتها في الجاهلية وأنا مشرك ثم قرأتها في الإسلام . قال : فدعتني ثقيف فقالوا : ما سمعت من هذا الرجل ؟ فقرأتها عليهم فقال من معهم من قريش : نحن أعلم بصاحبنا لو كنا نعلم ما يقول حقا لاتبعناه ".
أخرجه أحمد في " مسنده " ( 4/335 ) ، وابنه في " زوائد المسند " ( 4 / 335 ) ، والبخاري في " التاريخ الكبير "( 3/138 ) ، وعثمان بن سعيد الدارمي في " تاريخه " ( 3 / 27 ) ، وابن أبي عاصم في " الآحاد والمثاني " (1274 و 1275 ) ، وابن خزيمة في " صحيحه " (1778 ) ، والطبراني في " المعجم الكبير "( 4126 ) .
من طريق عبدالله بن عبدالرحمن الطائفي ، عن عبدالرحمن بن خالد العدواني ، عن أبيه ، به .
قال الهيثمي في " المجمع "(7/136 ) : " رواه أحمد والطبراني ، وعبدالرحمن ذكره ابن أبي حاتم ولم يجرحه أحد وبقية رجاله ثقات".
قلت : عبدالرحمن بن خالد ترجم له ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (5/229 ) ، والبخاري في " التاريخ الكبير " ( 5 / 277 ) ، ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً ، ولم يذكرا راوياً عنه سوى عبدالله بن عبدالرحمن الطائفي .
فهو مجهول العين ، وقد قال الحسيني في " الإكمال " : " مجهول "
و عبدالله بن عبدالرحمن فيه ضعف ، قال ابن معين : " ليس به بأس "
وقال أبوحاتم:" ليس بقوي ، لين الحديث ".
وقال البخاري : " فيه نظر ".
• الحديث السادس :
عن البراء بن عازب – رضي الله عنه - :
" أنّ النبيّ - صلى الله عليه و سلم - خطبهم يوم عيد و في يده قوس أو عصا ".
أخرجه أحمد ( 4/282 ) و عبد الرزاق في " مصنفه " برقم ( 5658 ) و أبو داود برقم ( 1145 ) ، و ابن أبي شيبة في مصنفه ( 5562 ) ، و الطبراني في " المعجم الكبير " ( 2/24 ) برقم( 1169 ) ، و البيهقي في ( السنن الكبرى 3/300) برقم (6013) ،
من طريق أبي جناب ، عن يزيد بن البراء ، عن أبيه ، به .
قلت : أبو جناب هو يحيى بن أبي حية ، قال الهيثمي في ( الزوائد 2/88 ) عن حديث فيه أبو جناب : " و هو ثقة و لكنه مدلس " .
و قال الحافظ ابن حجر في ( التقريب 1/589 ) : " ضعفوه لكثرة تدليسه " .
و قال في ( تغليق التعليق 3/238 ) : " كوفي يكتب حديثه في المتابعات وكان يعاب عليه التدليس وقد صرح بسماعه هنا " – يعني حديثًا هناك .
قلت : و كذلك هنا ، قد صرح بالسماع عند أحمد و البيهقي و الطبراني و غيرهم . فالحديث لا ينزل عن درجة الحسن . و قد صححه ابن السكن رحمه الله ، كما في ( التلخيص 2/65 ).
• الحديث السابع :
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال :
" كان رسول الله – صلى الله عليه و سلم – يخطبهم يوم الجمعة في السفر متوكئًا على قوس قائمًا " .
أخرجه أبو الشيخ في ( أخلاق النبي صلى الله عليه و سلم 171- 406 ) حدثنا إسحاق بن أحمد الفارسي ، نا محمد بن هارون ، نا معاوية بن عمرو ، نا معاوية بن عمرو ، نا أبوإسحاق الفزاري ، عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، به.
قال الشيخ الألباني رحمه الله في ( السلسلة الضعيفة 2/381 ) : " إسناده واه جدًّا "
قلت : في إسناده الحسن بن عمارة قال الحافظ في ( التقريب 1/162 ) : " متروك "
و الحديث أخرجه الطبراني في ( المعجم الكبير 11/392 ) من طريق أبي شيبة عن الحكم به .
و أبو شيبة ليس أحسن حالاً من الحسن بن عمارة ، فقد قال الحافظ في ( التقريب 1/92 ) : " متروك الحديث " .
• الحديث الثامن :
عن سعد القرظ رضي الله عنه :
" أنّ رسول الله - صلى الله عليه و سلم - كان إذا خطب في الحرب خطب على قوس وإذا خطب في الجمعة خطب على عصا ".
رواه ابن ماجة في " السنن " برقم ( 710و 731 ) باختصار ، و الطبراني مطوّلاً في ( الكبير ) برقم ( 5448 ) ، و في ( الصغير ) برقم ( 1174 ) ، و الحاكم في ( المستدرك ) برقم ( 6554 ) ، و ابن عدي في " الكامل " ( 4/314 ) ، و من طريقه البيهقي في " السنن الكبرى " برقم ( 5542 ) .
من طريق عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد القرظ المؤذن ، حدثني أبي عن أبيه عن جده به .
قال البوصيري في " الزوائد " ( 1/133 ) : " هذا إسناد ضعيف ؛ عبد الرحمن فمن فوقه ضعفاء ، وقد تقدم الكلام عليه مرة . رواه الحاكم في " المستدرك " من طريق عمار بن سعد به . ورواه البيهقي من طريق ابن ماجة ، وله شاهد رواه أبو داود في سننه من حديث الحكم بن حرب مرفوعا أنه خطب يوم الجمعة على عصا أو قوس".اهـ
قلت : و كذا رواه الطبراني في " الكبير " عن عبد الرحمن بن عمار بن سعد به . و ( عبد الرحمن بن سعد ) ضعفه ابن معين ، و أبوه ( عمار ) قال عنه الحافظ في " التقريب " ( 1/407 ) :" مقبول ".
و يُفهم من ظاهر كلام البوصيري رحمه الله أن الحديث صالح للإعتبار ، وهو كذلك .
• الحديث التاسع :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :
" ... وكان رسول الله إذا صعد على المنبر سلم ، فإذا جلس أذن المؤذن . وكان يخطب خطبتين ويجلس جلستين ، وكان يشير بإصبعه ويؤمّن الناس ، وكان يتوكأ على عصا يخطب عليها يوم الجمعة ، وكانت من شوحط . وكان إذا خطب استقبله الناس بوجوههم وأصغوا بأسماعهم ورمقوه بأبصارهم ..."
أخرجه ابن سعد في " الطبقات " ( 1/249 ) مطوّلاً ، أخبرنا محمد بن عمر أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عبد المجيد بن سهيل عن أبي سلمة عن أبي هريرة به .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في " الفتح " ( 2/398 ) : " رجاله ثقات إلا الواقدي ".
هذا فيما يتعلق بالأحاديث الموصولة ، و هي كافية للدلالة على سنية التوكإ على عصا عند الخطبة .
و في الباب أحاديث مرسلة صحيحة إلى مرسليها تعتضد بها الأحاديث السالفة ، و هي :
- عن ابن أبي جريج قال :
" قلت لعطاء : أكان النبي – صلى الله عليه و سلم – يقوم إذا خطب على عصا ؟ قال : نعم ، كان يعتمد عليها اعتمادًا ".
أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه " في باب اعتماد رسول الله صلى الله عليه و سلم على العصا برقم ( 5246 ) ، و الشافعي في " الأم " ( 1/200 ) في باب الخطبة قائمًا ، و " المسند " ( 1/66 ) برقم ( 421 ) ، و البيهقي في " السنن الكبرى " في باب الإمام يعتمد على عصا أو قوس أو ما أشبههما إذا خطب ( 5543 ).
قال الألباني رحمه الله : إسناد مرسل صحيح .
و قد رواه الشافعي في " الأم " ( 1/238 ) و في "المسند " برقم ( 422 ) من وجه آخر ؛ أخبرنا إبراهيم بن محمد ، حدثني الليث ، عن عطاء :" أنّ رسول الله – صلى اللله عليه و سلم – كان إذا خطب يعتمد على عَنَزَته اعتمادًا " .
و هذا ضعيف جدّا ؛ لضعف إبراهيم و الليث . و اقتصر الحافظ في " التلخيص " ( 2/65 ) و الشوكاني في " نيل الأوطار " ( 3/269 ) في تضعيفه على الليث . و وهم الشيخ الألباني رحمه الله فقال في " الضعيفة " ( 2/381 ) : " ليس الحديث عند الشافعي بهذا الإسناد " ، و كأنه ذهل عنه ، كما ذهل الإمامان ابن حجر و الشوكاني عن الرواية الأولى الصحيحة .
- عن ابن شهاب الزهري قال :
" بلغنا أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يبدأ فيجلس على المنبر ، فإذا سكت المؤذن قام فخطب الخطبة الأولى ، ثم جلس شيئاً يسيراً ، ثم قام فخطب الخطبة الثانية حتى إذا قضاها استغفر ، ثم نزل فصلى ، فكان إذا قام أخذ عصا فتوكأ عليها وهو قائم ".
أخرجه أبو داود في " المراسيل " برقم ( 57 ) ، حدثنا ابن السرح ، وحدثنا سليمان بن داود ،قال : أنبأ ابن وهب أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، به .
و إسناده صحيح .
و رواه في " المدونة الكبرى " ( 1/150 ) عن ابن وهب به . و سيأتي لفظه لاحقًا إن شاء الله تعالى .
- عن ابن جريج قال :
" بلغني أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جمع بأصحابه في سفر وخطبهم متوكئاً على قوس ".
أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه " في باب القرى الصغار ، برقم (5182 ). عن ابن جريج به .
و سنده صحيح.
- عن سعيد بن المسيب :
" أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يتوكأ على عصا وهو يخطب يوم الجمعة ، إذ كان يخطب إلى الجذع فلما صنع المنبر قام عليه ، وتوكأ على العصا أيضاً ."
أخرجه عبد الرزاق في " المصنف " برقم ( 5215 ) عن رجل من أسلم ، عن أبي جابر البياضي ، عن ابن المسيب ، به.
قلت : فيه علتان ؛
جهالة شيخ عبد الرزاق ،
و ضعف أبي جابر بل قال الإمام أحمد : " منكر الحديث جدا " ، وعن مالك قال :"كنا نتهمه بالكذب " ، وقال ابن معين :" ليس بثقة ، حدث عنه ابن أبي ذئب " ، وروى عباس عن يحيى :" كذاب " ، وقال النسائي وغيره :" متروك الحديث ".اهـ من " الميزان " ( 6/224 ).
- عن معمر قال :
" سمعت بعض أهل المدينة يذكر أن النبَّي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خطب اعتمد على عصاه اعتمادا ".
أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه " برقم ( 5662 ) عن معمر به .
و هذه العصا التي كان يعتمد عليها النبيّ – صلى الله عليه و سلم - في الجمعات و غيرها من المناسبات ، كانت مشهورة عند المسلمين في الزمن الأول ، يتناوب عليها الخلفاء من الصحابة رضوان الله عليهم ؛
ففي " المدونة الكبرى " ( 1/150 ) : ابن وهب عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب أنه قال :
" بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبدأ فيجلس على المنبر فإذا سكت المؤذن قام فخطب الخطبة الأولى ، ثم جلس شيئا يسيرا ثم قام فخطب الخطبة الثانية حتى إذا قضاها استغفر الله ثم نزل فصلى . قال ابن شهاب : وكان إذا قام أخذ عصا فتوكأ عليها وهو قائم على المنبر ، ثم كان أبو بكر وعمر وعثمان يفعلون ذلك ".
هذا على وجه الإجمال ، و أمّا على وجه التفصيل فهذه بعض أخبارهم :
• عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
عن أنس رضي الله عنه : " أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأ على المنبر [ فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا ] إلى قوله: [ وَأَبًّا ] . فقال : كل هذا قد عرفناه ، فما الأب ؟ ثم رفع عصا كانت في يده فقال : هذا لعمر الله هو التكلف ، فما عليك يا ابن أم عمر أن لا تدري ما الأب . ابتغوا ما بيّن لكم من هذا الكتاب فاعملوا به ، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه ."
أخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه " ( 30105 ) وسعيد بن منصور برقم ( 43 ) من طريق يزيد بن هارون قال أخبرنا حميد عن أنس به .
وابن سعد ، وسعيد بن منصور برقم ( 43 ) ،
وعبد بن حميد : حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس به .
وابن جرير ( 30/59 ) عن حميد و عن موسى بن أنس عن أنس به .
وابن المنذر والحاكم برقم ( 3897 ) من طريق ابن شهاب به . وصححه وغيرهم.
وروى محمد بن كعب القرظي أن عمر قال على المنبر وفي يده عصا :" يا أيها الناس لا تمنعكم اليمين من حقوقكم ، فوالذي نفسي بيده إن في يدي لعصا ".
ذكره الشيرازي في " المهذب " ( 2/128 ) ، و المقدسي في " المغني " ( 9/388 ).
• عثمان بن عفان رضي الله عنه :
عن موسى بن طلحة قال :
" كان عثمان يوم الجمعة يتوكأ على عصا ، وكان أجمل الناس ، وعليه ثوبان أصفران إزار ورداء حتى يأتي المنبر ، فيجلس عليه ".
أخرجه الطبراني في " الكبير " برقم ( 93 ) حدثنا المقدام بن داود ثنا خالد بن نزار ثنا إسحاق بن يحيى بن طلحة عن عمه موسى بن طلحة به.
قال الهيثمي في " الزوائد " ( 9/80 ) : رواه الطبراني عن شيخه المقدام بن داود وهو ضعيف .
قلت : تابعه ابن سعد في " الطبقات " ( 3/59 ) : قال أخبرنا محمد بن عمر قال أخبرنا إسحاق بن يحيى عن عمه موسى بن طلحة قال :
" رأيت عثمان يخرج يوم الجمعة عليه ثوبان أصفران فيجلس على المنبر فيؤذن المؤذن وهو يتحدث يسأل عن أسعارهم وعن أخبارهم وعن مرضاهم ثم إذا سكت المؤذن قام يتوكأ على عصا عقفاء فيخطب وهي في يده ثم يجلس جلسة فيبتديء كلام الناس فيسألهم كمسألته الأولى ثم يقوم فيخطب ثم ينزل ويقيم المؤذن ".
و عن يحيى بن عبدالرحمن بن خاطب عن أبيه قال :
" أنا أنظر إلى عثمان يخطب على عصا النبي- صلى الله عليه وسلم - التي كان يخطب عليها وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما . فقال له جهجاه : " قم يا نعثل فانزل عن هذا المنبر" ، وأخذ العصا فكسرها على ركبته اليمنى فدخلت شظية منها فيها ، فبقي الجرح حتى أصابته الأكلة فرأيتها تدود . فنزل عثمان وحملوه وأمر بالعصا فشدوها فكانت مضببة فما خرج بعد ذلك اليوم إلا خرجة أو خرجتين حتى حصر فقتل ".
أخرجه الطبري في " تاريخه " ( 2/262) عن محمد بن عمر الواقدي ، وحدثني أسامة بن زيد الليثي عن يحيى بن عبدالرحمن بن خاطب عن أبيه ، به .
قلت : و الواقدي و إن ضُعف إلا أنه يستشهد به في مثل هذا .
و يقويه ما رواه نافع :
" أن الغفاري أخذ عصا كانت في يد عثمان فكسرها على ركبته فرمى في ذلك المكان بأكلة ".
أخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه " برقم ( 37084 ) ، و الطبري في " تاريخه " ( 2/262 )
من طريق عبد الله بن إدريس عن عبيد الله بن عمر عن نافع ، به .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في " الإصابة " ( 1/519 ) :
" روى الباوردي من طريق الوليد بن مسلم عن مالك وغيره عن نافع عن بن عمر قال :
" قدم جهجاه الغفاري إلى عثمان وهو على المنبر فأخذ عصاه فكسرها ، فما حال على جهجاه الحول حتى أرسل الله في يده الأكلة فمات منها "
ورواه بن السكن من طريق سليمان بن بلال وعبد الله بن إدريس عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر مثله .
ورواه من طريق فليح بن سليمان عن عمته وأبيها وعمها أنهما حضرا عثمان قال :" فقام إليه جهجاه بن سعيد الغفاري حتى أخذ القضيب من يده فوضعها على ركبته فكسرها فصاح به الناس ونزل عثمان فدخل داره ، ورمى الله الغفاري في ركبته فلم يحل عليه الحول حتى مات ".
ورويناه في " المحامليات " من طريق حماد بن زيد عن يزيد بن حازم عن سليمان بن يسار : " أن جهجاه الغفاري..." نحو الأول ." انتهى كلام الحافظ .
قلت : كذلك رواه ابن أبي الدنيا في " العقوبات " ( 335 ) حدثنا أحمد بن المقدام قال : أخبرنا حماد بن زيد به .
وعن زيد بن وهب قال :" كان عمار قد ولع بقريش وولعت به فعدوا عليه فضربوه ، فخرج عثمان بعصا فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا أيها الناس مالي ولقريش وقد عدوا على رجل فضربوه ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: " تقتلك الفئة الباغية ".
قال الهيثمي في " الزوائد " ( 7/242 ) : " رواه أبو يعلى والطبراني في الثلاثة باختصار القصة وفيه أحمد بن بديل الرملي وثقه النسائي وغيره وفيه ضعف ."
قلت : عند الطبراني في " الصغير " برقم ( 516 ) ، حدثنا عمر بن محمد بن عمرويه المخرمي البغدادي حدثنا أحمد بن بديل القاضي حدثنا يحيى بن عيسى الرملي عن الأعمش عن زيد بن وهب ، به .
و قال الذهبي في " السير " ( 1/420 ) : " و رواه أبو عوانة في مسنده وأبو يعلى من حديث أحمد بن محمد الباهلي حدثنا يحيى بن عيسى ، به ... وأخرج أبو عوانة أيضا مثله من حديث القاسم الحداني عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن عبد الله بن محمد بن الحنفية عن أبيه عن عثمان ."اهـ
قلت : و هذه الآثار تشبه التواتر في ثبوت الإتكاء على العصا عن عثمان رضي الله عنه ، و أنّها كانت عصا رسول الله صلى الله عليه و سلم .
• علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
عن أبي المليح قال :
" لما قتل عثمان رضي الله عنه خرج علي إلى السوق وذلك يوم السبت لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة فاتبعه الناس في وجهه بني عمرو بن مبذول وقال لأبي عمرة بن عمرو بن محصن أغلق الباب فجاء الناس فقرعوا الباب فدخلوا فيهم طلحة والزبير فقالا يا علي ابسط يدك فبايعه طلحة والزبير فنظر حبيب بن ذؤيب إلى طلحة حين بايع فقال أول من بدأ بالبيعة يد شلاء لا يتم هذا الأمر وخرج علي إلى المسجد فصعد المنبر وعليه إزار وطاق وعمامة خز ونعلاه في يده متوكئا على قوس فبايعه الناس ".
أخرجه الطبري في " تاريخه " ( 2/697 ) وحدثني عمر بن شبة قال حدثنا علي بن محمد قال أخبرنا أبو بكر الهذلي عن أبي المليح ، به .
قلت : أبو بكر الهذلي و اسمه سلمى ، قال الذهبي في " الكاشف " ( 2/414 ) : واهٍ . و قال الحافظ في " التقريب " ( 1/625 ) : " أخباري متروك الحديث من السادسة ".
• عبد الله بن الزبير رضي الله عنه :
عن هشام بن عروة قال :
" رأيت عبد الله بن الزبير يخطب وفي يده عصا ".
أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه " برقم ( 5659 ) عن الثوري عن هشام بن عروة ، به .
و هذا سند صحيح .
و رواه الخطيب البغدادي في " تاريخ بغداد " ( 14/38 ) من طريق علي بن مسهر عن هشام قال :
" رأيت عبد الله بن الزبير بمكة يصعد المنبر يوم الجمعة وفي يده عصا فيسلم ثم يجلس على المنبر ويؤذن والمؤذنون ، فإذا فرغوا من اذانهم قام فتوكا على العصا فخطب ، فإذا فرغ من خطبته جلس دون أن يتكلم ثم يقوم فيخطب فإذا فرغ من خطبته نزل ".
• عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :
عن علقمة : " أن عبد الله بن مسعود كان يقوم قائما كل عشية خميس فما سمعته في عشية منها قال : " قال رسول الله صلى الله عليه و سلم " مرة واحدة فنظرت إليه وهو معتمد على عصا ، فنظرت إلى العصا تزعزع ".
أخرجه ابن سعد في " الطبقات الكبرى " ( 3/157 ) و الطبراني في " الأوسط " ( 2/278 ) برقم ( 1981 )
قال أخبرنا عبد العزيز بن المختار عن منصور الغُداني عن الشعبي عن علقمة ، به .
قلت : هذا سند رجاله رجال الشيخين ، ما عدا ( الغُداني ) و هو منصور بن عبد الرحمن الأشل ، روى له مسلم .
قال في " الميزان " ( 6/520 ) : " وثقه ابن معين ،
وقال أبو حاتم : لا يحتج به .
وقال أحمد : ثقة إلا أنه يخالف في أحاديث ،
وقال النسائي : ليس به بأس ".
فالأثر صحيح .
و لا يقال : أنه ليس في الأثر أنّ ذلك كان في خطبة ، فقد أخرج ابن سعد في " الطبقات " ( 3/157 ) قال :
أخبرنا عفان بن مسلم وهشام أبو الوليد الطيالسي ويحيى بن عباد قالوا أخبرنا شعبة عن جامع بن شداد قال أخبرنا عبد الله بن مرداس قال :
" كان عبد الله يخطبنا كل خميس فيتكلم بكلمات فيسكت حين يسكت ونحن نشتهي أن يزيدنا ".
و يشهد لذلك ما رواه أحمد في " مسنده " ( 3996 ) عن أبي الأحوص الجشمي قال : بينما ابن مسعود يخطب ذات يوم ، إذ مر بحية تمشي على الجدار فقطع خطبته ثم ضربها بقضيبه حتى قتلها ، ثم قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من قتل حية فكأنما قتل رجلا مشركا قد حل دمه ".
و إسناده ضعيف .
و بالجملة ، فإنّ أمر الإعتماد على عصا عند الخطب كان مقرّرًا ، و لا يزال سلف هذه الأمة يفعلونه إلى يوم الناس هذا .
و من السلف الذين ورد عنهم ذلك ؛
• عمر بن عبد العزيز :
فعن طلحة بن يحيى قال : " رأيت عمر بن عبد العزيز يخطب وبيده قضيب ".
أخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه " في باب العصا يتوكأ عليها إذا خطب ، ( 5563 ) قال : حدثنا وكيع عن طلحة بن يحيى ، به .
و في رواية ( 5207 ) بالإسناد ذاته بلفظ : " سمعت عمر بن عبد العزيز يقرأ و هو على المنبر [ و أنيبوا إلى ربّكم و أسلموا له ] و في يده عصا ".
و إسناده صحيح .
و كذلك هو الشأن عند أئمة المسلمين المقتدى بهم :
ففي " المدونة " ( 1/151 ) : " وقال مالك : وذلك مما يستحب للأئمة أصحاب المنابر أن يخطبوا يوم الجمعة ومعهم العصيّ يتوكؤون عليها في قيامهم ، وهو الذي رأينا وسمعنا ".
و في قول الإمام مالك هذا دليل على جريان العمل على ذلك ، و أنه من أمر الناس القديم الذي توارثوه و تواطئوا عليه .
و قال في موضع آخر ( 1/156 ) : " وقال مالك في خطبة الإمام يوم الجمعة : يمسك بيده عصا ، قال مالك : وهو من أمر الناس القديم . قلت له : أعمود المنبر - يعني مالك - أم عصا سواه ؟ قال : لا بل عصا سواه ".
و في هذا ردّ على من يكتفي بالإعتماد على أعواد المنبر أو حوافّه .
و في " الأم " ( 1/200 ) قال الإمام الشافعي رحمه الله : " ويعتمد الذي يخطب على عصا أو قوس أو ما أشبههما ، لأنه بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتمد على عصا ".
قلت : و كذلك هو مذهب كل الأئمة ؛
قال أبو إسحاق الشيرازي في " المهذب " ( 1/112 ) : " ويستحب أن يعتمد على قوس أو عصا لما روى الحكم بن حزن قال : وفدت على النبي صلى الله عليه وسلم...".
و أقره النووي رحمه الله في " المجموع " ( 4 /445 ) فقال : " يسن أن يعتمد على قوس أو سيف أو عصا أو نحوها لما سبق ".
و قال ابن مفلح الحنبلي في " المبدع " ( 2/163 ) : " ويعتمد على سيف أو قوس أو عصا لما روى الحكم بن حزن ... ولأنه أمكن له ، وإشارة إلى أن هذا الدين فتح به ".
و سيأتي تعليق ابن القيم رحمه الله على هذا قريبًا إن شاء الله .
و أمّا الأحناف ففي " الدر المختار " ( 2/163 ) : " ... وفي " الحاوي القدسي " : إذا فرغ المؤذنون قام الإمام والسيف في يساره وهو متكىء عليه . وفي " الخلاصة " : ويكره أن يتكىء على قوس أو عصا ".
لكن في " حاشية ابن عابدين " ( 2/163 ) : " قوله : " وفي الخلاصة ...إلخ " استشكله في " الحلية " بأنه في رواية أبي داود أنه قام - أي في الخطبة - متوكئا على عصا أو قوس . ونقل القهستاني عن عبد المحيط : أن أخذ العصا سنة كالقيام ".اهـ
و في " رسالة القيرواني " ( 1/47 ) من المالكية : " والجمعة تجب بالمصر والجماعة ، والخطبة فيها واجبة قبل الصلاة ، ويتوكأ الإمام على قوس أو عصا ، ويجلس في أولها وفي وسطها ....".اهـ
و قال ابن القيم رحمه الله في " الزاد " ( 1/189 ) :
" وكان إذا قام يخطب أخذ عصا فتوكأ عليها وهو على المنبر ، كذا ذكره عنه أبو داود عن ابن شهاب ، وكان الخلفاء الثلاثة بعده يفعلون ذلك ، وكان أحيانا يتوكأ على قوس ، ولم يحفظ عنه أنه توكأ على سيف .
وكثير من الجهلة يظن أنه كان يمسك السيف على المنبر إشارة إلى أن الدين إنما قام بالسيف ، وهذا جهل قبيح من وجهين ؛
أحدهما : أن المحفوظ أنه - صلى الله عليه وسلم - توكأ على ا لعصا وعلى القوس .
الثاني : أن الدين إنما قام بالوحي ، وأما السيف فلمحق أهل الضلال والشرك ، ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يخطب فيها إنما فتحت بالقرآن ولم تفتح بالسيف ".اهـ
قلت : هذا الذي قاله ابن القيم رحمه الله أولاً هو الصواب . لكنّه خالف بعد ذلك فقال ( 1/429 ) :
" ولم يكن يأخذ بيده سيفًا ولا غيره ، وإنما كان يعتمد على قوس أو عصا قبل أن يتخذ المنبر ، وكان في الحرب يعتمد على قوس ، وفي الجمعة يعتمد على عصا . ولم يحفظ عنه أنه اعتمد على سيف ، وما يظنه بعض الجهال أنه كان يعتمد على السيف دائما وأن ذلك إشارة إلى أن الدين قام بالسيف ، فمن فرط جهله . فإنه لا يحفظ عنه بعد اتخاذ المنبر أنه كان يرقاه بسيف ولا قوس ولا غيره ، ولا قبل اتخاذه أنه أخذ بيده سيفا البتة ، وإنما كان يعتمد على عصا أو قوس ".اهـ
و كلامه هذا اغتر به بعض الناس ، حتى أنّ البرهان الحلبي رحمه الله قال في " سيرته " (2/352) :
"... وقول صاحب الهدي - يعني ابن القيم - : وكان قبل أن يتخذ المنبر يعتمد على قوس أو عصا ، يقتضي أن بعد اتخاذ المنبرلم يعتمد على شيء من ذلك ، أي وصرح به صاحب القاموس في ( سفر السعادة ) ح
مسجد الاسراء و المعراج عنابة :: المنتدى الاسلامي :: المنتدى الاسلامي :: المنتدى الاسلامي العام :: مسائل فقهية وعلمية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأحد 2 أكتوبر - 15:32 من طرف ابو حامد
» موقعنا الجديد
الأربعاء 28 سبتمبر - 1:11 من طرف ابو حامد
» الجنة و التار
الثلاثاء 27 سبتمبر - 17:12 من طرف درصاف
» قل و أنت ساجدا
الثلاثاء 27 سبتمبر - 17:02 من طرف درصاف
» القرآن الكريم
الإثنين 26 سبتمبر - 22:01 من طرف درصاف
» كلمات في الرقائق 2
الثلاثاء 20 سبتمبر - 23:59 من طرف درصاف
» نوح (عليه السلام)
الجمعة 16 سبتمبر - 14:40 من طرف karimm3
» قصة إدريس عليه السلام
الجمعة 16 سبتمبر - 14:39 من طرف karimm3
» سيدنا ءادم عليه السلام
الجمعة 16 سبتمبر - 14:39 من طرف karimm3